الاثنين، 6 أغسطس 2018

قراءات عصرية //////// بانيات الرجال //////////////////////////////////////////////////


 قراءات عصرية
 ـــــــــــــــــــــــــ
                        بانيات الرجال  
                                بقلم  
                           أحمد النجار
                                   كاتب عربي

ليت شعري هل أقول قصيدة 
                         فلا اشتكي قيها ولا أتعتب ؟
ذلك بيت شعر قديم لشاعرنا الكبير المتنبي ، يتعجب فيه الشاعر  من نفسه ومن شعره ، كيف يكتبه ولا يبث فيه همومه وأشجانه وعتابه ؟!
وهذا أيضاً ما عايشته في صاحبي زايد وحياته الدراماتيكية العجيبة ، وكيف أنه قاسي كثيراً من ظلم أبيه له وهو القاضي الذي من المفترض قيه أن يحكم بين الناس بالعدل !
ولنستمع للقصة من بدايتها علي لسان صاحبها ،
أنا الابن الأكبر ولي شقيقين وشقيقتين يعملان جميعا في وظائف حساسة ومرموقة .
بحكم عمل أبي كقاضي ، فقد نشأنا جميعا في جو أرستقراطي يهتم بالمظهر والشكليات أكثر من اهتمامه
بالجوهر ، حتي صداقات الأسرة كانت لأناس مختلفين عن بقية عباد الله الآخرين !
وقد عزفت أنا عن هذه الحياة وكانت صداقاتي لشباب بسطاء من عامة الشعب المكافحين ، فكانت التهم تُوجه اليّ بأنني لا أحافظ علي مستوي الأسرة الاجتماعي والعائلي .
عندما حصلت علي الثانوية العامة بمجموع كبير ، التحقت بكلية الطب  بمدينة الزقازيق احدي مدن الدلتا في مصر ، وأهداني وقتها والدي سيارة فاخرة كبيرة أذهب بها للكلية ، وكنت اتحرّج كثيراً من الذهاب بها للجامعة  منعاً لتساؤلات الزملاء والأساتذة عن أصل هذا الثراء الفاحش !
أثناء دراستي ارتبطت عاطفياً بزميلتي  هاجر ، تلك الفتاة البسيطة التي كنت أشعر بحنان الدنيا كله في القرب منها ، فهي جميلة وذكية ومتفوقة ، وتعاهدنا سويا علي الارتباط إن شاء الله بعد التخرج مباشرة ، وجاء يوم التخرج ونجحنا بتقدير عال ، ولا انسي أبدا ذلك اليوم ، فمن شدة فرحتي ذهبت لعائلتي وفاتحت أبي وآمي برغبتي في خطبة هاجر ، ودعوتها لزيارتنا ، وجاءت الفتاة البسيطة ورآها أبي وأمي وأعجبوا بها ونالت إعجاب الجميع بجمالها وهدوءها وذوقها في اختيار
ملابسها .
بعد انتهاء الزيارة سألني أبي عن مهنة أبيها ، فأجبته بأنه يعمل خباّز في فرن بلدي .
ساعتها انفجرت الحمم والبراكين وهب أبي واقفاً محطماً كل شيء في طريقه ، معلناً بإصرار أن زواجي من هاجر لن يتم أبداً !
كل هذا لأن عمل والدها الشريف في نظره عمل حقير ومهنته غير لائقة بمركز رجال القضاء العادل !
رغم أن هذا الرجل الشريف المكافح أنجب ذرية صالحة منهم الطيار والمهندس  والضابط !
وطبعا انحازت العائلة كلها الي جانب أبي سعادة الباشا المستشار ، وقررت بيني وبين نفسي أن أدافع عن اختياري ، وتوجهت إلي بيت هاجر وقابلت والدها ، ذلك الرجل العصامي المكافح ، وعرف مني كل شيء ، وقالها لي صريحة أنه لا يرضي لنفسه ولا لأسرته أن يقول الناس أنهم قد ضحكوا عليّ وخطفوني  من عائلتي الأرستقراطية !
بل وأعلن بكل وضوح أنه سوف يطرد ابنته  لو تزوجتني علي غير إرادته وموافقته !
ساعتها يا صاحبي  وجدت نفسي حائراً ماذا افعل ، فأسرتي  ترفض بسبب نظرتها الإقطاعية  الظالمة ،
واسرة هاجر حبيبتي ترفض  دفاعا عن كراكتها  وخوفا من بطش أبي !
ولكني استخرت الله وقررت ونفذت ما يرضاه ضميري وقلبي ، واصطحبت هاجر ذات يوم  ومعي اثنان من الشهود ألي مكتب المأذون وتزوجتها رغم أنف أبي  وغطرسته ، نعم تزوجتها علي سنة الله ورسوله ، وخرجنا من مكتب المأذون زوجين أمام الله والناس لنواجه أقدارنا وحدنا ، ليس لنا سند ومعين سوى الله عز وجل .
وما أن علم أبي  بما حدث ، طردني فوراً من البيت وخرجت منه وأنا احمل حقيبة صغيرة  للملابس وفي جيبي ثلاثة جنيهات فقط هي كل ما تبقي معي بعد ان دفعت أتعاب المأذون !
وما أن علم ابو هاجر بما جري حتي طردها هي الأخرى ، فخرجت من البيت ومعها حقيبة ملابس صغيرة وجنيهان فقط !
وجدنا أنفسنا وحدنا في الشارع ، لا مأوى لنا ولم نتسلم عملنا كأطباء !
ساعتنا ألهمني الله أن اتصل بأحد أصدقائي  واقترضت منه ثلاثين جنيها وذهبنا للإقامة في احد اللوكاندات الشعبية الرخيصة .
استمر حالنا هكذا لمدة شهر ، كانت زوجتي فيه خير معين لي بتدبيرها ، حيث عشنا طوال تلك الفترة بذلك المبلغ البسيط !
وعن طريق احد الأصدقاء  انتقلنا للاستقرار في شقة بالإيجار بحي المغربلين الشعبي بالقاهرة .
هناك أحاطنا جيراننا الطيبين بكل رعايتهم ، فقد كانوا يتعجبون كيف نكون أطباء ونسكن في هذا المسكن المتواضع !
كانت جميع سيدات الحي يتطوعن لمساعدة زوجتي في الغسيل أو شراء حاجيات المنزل من السوق لأننا طبيبان مشغولان بالعمل .
والحمد لله كثيراً فقد وجدنا في جيراننا الطيبين  تعويضاً لنا عن جفاء أهلنا وقسوتهم علينا .
تصور يا صديقي ، أبي المستشار والقاضي العادل أرسل من طرفه أربعة بلطجية تهجموا علينا في المسكن وحطموا كل شيء مع سبنا بأفظع الألفاظ ، ثم خرجوا واحدهم يهددني قائلاً : أنتم لسه شفتم حاجة ، عشان تبقي تتحدى سعادة الباشا !
ساعتها أمسك كل منا بالآخر بقوة وكأنه يحتمي به مما تخفي له الأيام القادمة !
وحدث ما توقعناه بالفعل ، فقد ابلغني أحد الأصدقاء بأن
أبي يخطط بأن يلفق لزوجتي المحترمة قضية آداب !!
يا إلهي !!... إلي هذا الحد وصل بك العناد والجبروت يا أبتاه !!
مرت الأيام واستطعنا احتواء انفعالات الباشا أبي ، وابتعدنا بعيداً عنه حتي لا يصيبنا أذاه ، وطلبنا من جهات عملنا أن ننتقل إلي محافظة بورسعيد الساحلية ، وهناك عشنا اسعد أيامنا ورزقنا الله بولد وبنتان ، وشجعتني زوجتي المخلصة علي تسجيل رسالة الماجستير ، فظننت أنه حدث خلل في تفكيرها !
كيف أتفرغ للماجستير وأحوالنا غير مستقرة ، لكنها أقنعتني أننا متفوقين ، وقد صمدنا لأصعب اختبارات الحياة ، فلماذا لا نكمل مشوارنا العلمي ؟!
استجبت لاقتراحها معجباً بها وبقوة إرادتها وعزيمتها ، وسجلت أنا وهي للماجستير ، ثم حصلنا  علي الدكتوراه في تخصص نادر في الطب ، وأكرمنا الله بالسفر للعمل في اعرق الجامعات الأوربية والعربية ، وجمعنا ثروة هائلة استطعنا بها شراء عمارة كاملة في حي المعادي الراقي  بمدينة القاهرة ، وأصبح لدينا أكثر من سيارة ، وبعد أكثر من عشر سنوات من الغربة عدنا  إلي أم الدنيا للاستقرار ، وما أن وطئت أقدامنا أرض المطار حتي فوجئنا بزفة هائلة تنتظرنا من الأصدقاء والمعارف ،
وارتدينا علي عجل ثياب الفرح ( البذلة والفستان )  وذهبنا جميعاً الي ارقي  فنادق القاهرة ذات السبع نجوم كي نحتفل بزواجنا الذي لم نحتفل به يوم تزوجنا منذ عشر سنوات ، وتصدر الحفل جيراني الطيبين في شقة المغربلين الشعبي  فرحين مندهشين ، ودخلت القاعة مع زوجتي هاجر في ثوب الزفاف وأمامنا المشاعل والشموع وفرقة الزفاف وأولادنا يلعبون بين أقدام المدعوين ، سعداء وهم لا يدرون أنه حفل زفاف أبويهم !!
أنا الآن سعيد وراضي عن كفاحي ، وأكثر سعادة بزوجتي الصالحة التي أكرمني الله بها .
هكذا عشنا مع قصة فريدة ونادرة من الكفاح والصبر علي أذى الآخرين الذين هم اقرب الناس إلينا !
لكم ما أثار اشمئزازي حقا هو ذلك الأب الظالم سعادة الباشا المستشار رجل العدالة الذي يفتقد العدالة في تعامله مع اقرب الناس |إليه ، فكيف يعدل بين الناس ؟!
كيف هان عليه ولده إلي هذا الحد لدرجة أن يفكر في تلفيق قضية آداب لزوجته !!
أي عقلية متحجرة يفكر بها هؤلاء المتجبرين في الأرض ، إنها عقلية الإقطاع والاستبداد وحسابات الثروة والجاه !
وتلك كلها أشياء تافهة أمام عظمة خالق السموات
والأرض !
وإذا كان صاحبي زايد قد فقد أسرته للأبد وكذلك زوجته المخلصة ،فقد التفت حولهم قلوب المخلصين البسطاء من هذا الوطن .
لقد كانت زوجته هاجر تجسيد واقعي وحي للمثل القائل وراء كل عظيم امرأة ، إنها من النساء المخلصات المؤمنات بانيات الرجال .

                                   أحمد عبد اللطيف النجار
                                          كاتب عربي