سرديات قصيرة /////// الفرار إلي القدر ! &&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&

سرديات قصيرة

ــــــــــــــــــــــــ

                 الفرار إلي القدر

                            

                                  بقلم

                     أحمد عبد اللطيف النجار

                            كاتب عربي

هل يملك أي مخلوق أن يفّر ويهرب من قدره المكتوب عليه ؟!..

 بالطبع لا !

وإنما نحن نهرب من أحزاننا وآلامنا ومآسينا في الحياة بالفرار إلي قدر الله واللجوء إليه سبحانه وتعالي كي يخفف آلامنا وأحزاننا .

إلي كل المحزونين والثكلى أهديهم قصة صاحبي عبد الرحمن ، ذلك المهندس المُبتلى  الذي ابتلاه الله بفقد أحد أبنائه ، ولنبدأ القصة من البداية ، يقول عبد الرحمن : مهنتي مهندس مدني ، عمري تجاوز الخمسين عاماً وقد تزوجت منذ ثلاثين عاماً  وأنجبت ثلاث بنات وولدان ، مسعود بالمرحلة الثانوية وسعيد ، طفل منغولي لم يذهب إلي أي مدرسة نظراً لظروفه ، والحمد لله على كل حال  كان ابني مسعود متفوقاً في دراسته وذكياً ، فقد حصل علي الشهادة الإعدادية بمجموع 90%  وواصل تفوقه في الدراسة الثانوية حتى وصل للسنة الثانية  .

ذات يوم شعر ولدي الحبيب مسعود ببعض الألم في قدمه اليمنى ، فذهبت به إلي الأطباء  ولم يجدوا فيها شيئاً يلفت النظر ، ثم قرر أحدهم أنها تحتاج إلى جراحة صغيرة لمدة يوم واحد فقط ، ففرحنا بذلك وبدأنا نستعد لعمل الجراحة وذهبت به للمستشفى فإذا بالأطباء يترددون في إجراء الجراحة ويطلبون تحليل عيّنه من ساقه ، ثم يصدمونني بأنه مُصاب بمرض لعين ولابد من بتر ساقه قبل أن يمتد المرض إلى أماكن أخرى من جسمه ... فوّضت أمري إلى الله وسافرت به للعاصمة لعرضه على كبار الأطباء المتخصصين  وسابقت الزمن  لإجراء عملية البتر قبل فوات الأوان ، وبعد إجراء الفحوص المختلفة صارحني الأطباء بأنه لم يعد في الإمكان بترها لأن المرض قد امتد بالفعل  ولم تعد تجدي معه إجراء جراحة ولم يبق لابني الحبيب من العمر إلا مهلة بين ستة أشهر وسنة واحدة !!... يا إلهي !!.. في أسبوع واحد  هكذا أواجه تلك الحقيقة القاسية  ويُقال لي : لا أمل في ابنك الشاب الطيّب الوديع البشوش المتفوق  دائماً في دراسته !

كانت تلك هي الحقيقة المُرة ... امتثلت لقضاء الله وقدره  وكتمت الخبر الأسود في صدري ولم أبح به لزوجتي أو لأحد  من أفراد أسرتي  وطويت قلبي على أحزاني  ورددت لنفسي  ما أؤمن به عن يقين  من أن الأعمار بيد واهبها وحده سبحانه ، ولهذا فقد قررت المضي في مشوار العلاج بلا كلل وكلما ذهبت به إلى طبيب جديد دخلت لمقابلته قبل ابني ونبّهته إلى أنه لا يعرف شيئاً عن طبيعة مرضه لكي يراعي ذلك في حديثه معه !

والحمد لله لم يعرف ولدي الحبيب حقيقة مرضه ، مرت عليّ أوقات عصيبة ووجدت نفسي أحمل في صدري أحزان الدنيا كلها ، وسألت نفسي ماذا عساي أن أفعل وصدري يضيق بما ينطوي عليه ؟!.. فوجدت الإجابة في أنه لا مهرب من الله إلا إليه  وأكثرت من قراءة القرآن ففيه شفاء لما في الصدور ، وأصبحت أتم قراءته مرة كل أسبوع ، ثم تطّلب  علاج ابني الحبيب دخوله أحد المستشفيات الاستثمارية في القاهرة أكثر من مرة ، وكان عليّ ألا أهمل في نفس الوقت عملي وهو مصدر رزقي الوحيد ، فكنت أسافر من بلدتي صباح كل يوم إلي مواقع العمل في المحافظات المختلفة ثم أسافر منها عصراً إلى القاهرة لأرى ابني وأمضي معه ساعات ثم أتركه آخر الليل في رعاية أمه أو أحد أقاربه وأعود إلي بلدتي  وأنام في بيتي والتليفون بجواري مترقباً وخائفاً مما سوف يحمله لي بين لحظة وأخرى من أنباء حزينة .

كنت عندما أذهب إلى ولدي الحبيب مسعود  ويراني حزيناً  متوتراً ، كان يسري عني ويطالبني بألا أحزن قائلاً : اصبر لحكم ربك يا بابا .

كان دائماً بشوشاً مبتسماً رغم يقينه أنه لا أمل في شفائه ،حتى أنه طالبني بدفع رسوم مدرسته في موعدها حتى لا يُفصل منها وهو لا يدري أنه على وشك الفصل النهائي من الحياة كلها !!

ذات يوم عندما رأيت حالته قليلاً قررت أن يؤدي معي العمرة ليقف معي بالبيت الحرام ، وفي الروضة الشريفة ندعو له بالشفاء ، وبالفعل أتممت إجراءات السفر وحددنا له موعداً، وقبل يومان فقط من ميعاد السفر دخل مسعود المستشفى وتدهورت حالته في اليوم التالي ، فظل طوال اليوم يحمد الله كثيراً ، ثم قرأ الفاتحة والمعوذتين  وراح يردد دعاء سيدنا يونس ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ثم ردد الشهادتين عدة مرات ، ثم استراح من آلامه إلي الأبد ، رحمه الله وأحسن ثوابه وعوّضنا فيه خيراً ، وودعناه يا صاحبي إلى مثواه الأخير ، وعدت بعد فترة العزاء إلى عملي ، فاندمجت فيه محاولاً النسيان وأكثرت من قراءة القرآن الكريم  والأحاديث والتفاسير ، وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أكثركم ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل )... وتذكرت الآية الكريمة من سورة العنكبوت ( أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون )  واسترجعت الحديث القدسي  ( إذا ابتليت عبداً من عبادي بمصيبة في ماله أو نفسه أو ولده  ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنثر له ديواناً ) .

بعد فترة قصيرة ذهبت لأداء العمرة التي كانت محجوزة قبل أن يحم القضاء وغاب عنها شريكي رحمه الله ... وقفت في ساحة الكعبة المُشّرفة وغسلت أحزاني بماء زمزم ، وبدمعي بكيت حتي ارتويت .

وفي موسم الحج اصطحبت زوجتي إلي الرحلة المقدسة لنكون ضيوفاً على الرحمن .. نسأل الله جل في علاه الصبر والمغفرة ، وعدت ونفسي راضية ومارست حياتي وعملي وأكثرت من الوضوء والصلاة في أي مكان أتواجد فيه .

والله يا صديقي كنت عندما انتهي من صلاتي أشعر براحة نفسية كبيرة وتطيب نفسي وتهدأ جراحي ، وتلك هي نصيحتي المخلصة لكل المحزونين والثكلى ، أرجوهم أن يغسلوا أحزانهم بالقرب من الله واللجوء إليه والإكثار من قراءة القرآن ، يسألون الله من فضله أن يؤجرهم في آلامهم ويعوّضهم عنها خير الجزاء .

*صاحبي المُبتلى عبد الرحمن تغلب علي أحزانه وآلامه بالتسليم بقضاء الله ثم الفرار من قضاء الله إلى قدره والالتجاء إلى منْ بيده وحده أن يشفي الجراح ويخفف الأحزان .

لقد اتبع عبد الرحمن أفضل الأساليب للتغلب علي الجراح والأحزان باندماجه في العمل والمشاركة في جميع المناسبات الاجتماعية ، وبذلك تجّنب الوصول إلى حالة خلو الذهن فينقاد دون أن يدري لاجترار الأحزان ، فالذهن البشري مهما كان عبقرياً لا يتسع لغير ما يهتم بأدائه في نفس اللحظة ، وإذا استغرق في شئ ما بتركيز شديد نال أجازة قصيرة من الأحزان والهموم .

تلك يا صاح روعة الإيمان بالله والتسليم بقضائه وقدره اللذان يحميان الإنسان المؤمن من الغرق في بحار الحيرة والشك والوقوف أمام التساؤل الخادع : لماذا حدث ما حدث ؟!!

أنها الثقة الإيمانية الغالية في رحمة الله تحمل الإنسان فوق طوق الإيمان إلى شاطئ الأمان ، بينما غيره من القانطين ، اليائسين من رحمة الله وضعيفي الإيمان حائرين، متشككين في بحر القنوط حتى نهاية العمر .

فهنيئاً للمؤمنين المستسلمين لقضاء الله وقدره ، هنيئاً لصاحبي عبد الرحمن  علي قوة إيمانه وصبره علي الابتلاء ، فلقد اهتدي الرجل بفطرته الإيمانية السليمة إلى هذه الفلسفة الحكيمة لمداواة الأحزان بإيمانه ووجدانه الديني النقي الطاهر ، فاحتمى بالحي القيوم الذي لا يرد أحد عن حِماه ، وسأل منْ لا يُسأل سواه  فهداه إلى طريقه وفرّ  من قدر الله إلى قدر الله .

واليوم يفر شعبي المصري العظيم  من قدر الله إلي قدر الله ويلتجأ إليه في محنته بعد أن فشلت أعظم ثورة في تاريخ مصر الحديث !

إنها ثورة 52 يناير 2011 .

طيب لماذا يعتبرها الناس ثورة فاشلة رغم أننا أطحنا بالطاغية المستبد حسني مبارك في 18 يوم فقط ؟!!

الواقع يقول ذلك !!

الواقع هو الذي يتكلم !!!

لم يتغير شيء علي أرض الواقع !!

نفس العقول المتحجرة تحكمنا وتتحكم فينا !!

نفس الأسلوب العقيم  في كل شيء علي أرض مصر !!

سوف ننظر إلي أم الدنيا  من عدة زوايا ، ونكتفي اليوم بزاويتين  فقط ، هما التعليم والصحة .

انظروا إلي  سياسة التعليم في مصر ( حاليا ) هي نفس سياسة مبارك العقيمة ، بل أشد سوادا !

التعليم في تدهور مستمر  عاما بعد عام !!

يكتبون علي مدارسهم ( الحكومية ) : مدرستنا نظيفة ، جميلة ، متطورة !!

والله لا أري فيها نظافة ولا جمال ولا تطور !!

بل أري تخلف واستهتار وتقصير في تعليم أبناء الوطن الأبرياء !!

انعدم الضمير ( نهائيا ) عند المدرس المصري ، وأصبح كل همه هو الدروس الخصوصية  وامتصاص دم الغلابة ، والدولة المصرية تقف عاجزة تماما أمام هؤلاء المدرسين  الأباطرة !!!

ولماذا هم أباطرة ؟!!!

لأنهم أباطرة بالفعل ، يأخذون في المادة الواحدة أتعابهم آلاف الجنيهات ، بل ويفتحون مراكز للدروس الخصوصية  في  عز النهار بلا خوف ولا خجل !

لماذا بلا خوف ولا خجل ؟!!

لأنهم يدركون جيدا أن الحكومة المصرية ما يهمها هو تحصيل الضرائب منهم !!

وليذهب التلاميذ وأولياء أمورهم إلي الجحيم !!

ذلك هو حال التعليم المصري الفاشل !

وقد رأينا العشرات  من وزراء التربية والتعليم علي مدار نصف قرن ، هؤلاء الوزراء الفاشلين  لم يقدموا أي برنامج أو خطة طموحة للارتقاء بالتعليم المصري !

حقيقي وزراء فاشلين ، او قل هم مجرد موظف بلقب وزير !

لم أر في حياتي  وزير تعليم مصري واحد جرئ وطموح !!

واعتقد أنني لن أري حتي دخول القبر الذي صار قريبا ان شاء الله .

ذلك هو قدر المصريين ، أحفاد الفراعين !

يتحكم في مصيرهم أشباه الرجال !!

طيب والي متي يتحكم في مصيرنا أشباه الرجال ؟!!!

سؤال صعب جدا والإجابة عليه ليست مستحيلة !!

كانت ثورة  25 يناير  فرصة العمر لكل المصريين للتغيير للأفضل !

لكن الذي حدث هو العكس تماما !!

لقد عدنا للوراء آلاف السنين !

ولماذا عدنا للوراء آلاف السنين ؟!!!

لأننا تركنا نظام مبارك يرتع ويعيش بيننا كما هو !!!

وكأن  ثورة لم تكن !!!

وكأن شهداء الوطن  ضحوا بدمائهم من أجل وطن آخر!!

ننتقل إلي زاوية أخرى من زوايا أم الدنيا الحزينة !

إنها صحة المصريين !

وما أدراك ما صحة المصريين !!!

أمراض الدنيا الفتاكة  طحنت المصريين  طوال عصر الطاغية مبارك ، وما زالت تطحنهم !!!

أصبح العلاج الحقيقي في مصر للأغنياء فقط !

أما الفقراء فلهم الله !

صارت المستشفيات الحكومية عاجزة عن تقديم خدماتها العلاجية  للمواطن المصري المطحون !

ولولا وجود التأمين الصحي  وخدماته المتميزة المجانية  ؛ لهلك (( كل )) المصريين !!!

والشيء المثير للدهشة  والقرف  في نفس الوقت  أن موظفي وزارة الصحة المصرية الفاشلة ، من أطباء وتمريض وإداريين  يحصلون علي أضعاف  أضعاف  ما يحصل عليه موظفي التأمين الصحي الأوفياء !!

إذا دخلت أي مستشفي حكومي سوف تصيبك الحسرة والدهشة علي تدهور خدماتها الطبية !

بل ويطلبون منك إحضار كل شيء (( علي حسابك )) ابتداء من السرنجة  حتي القطن والشاش وخلافه !

أما المستشفيات الخاصة الاستثمارية ، فتلك للأغنياء  فقط ، وممنوع علي الشعب البائس الفقير أن يقترب منها !!!!

ليت دولتنا المصرية الحالية  تفكر جديا في إلغاء وزارة الصحة  وضم كل وحداتها ومستشفياتها وموظفيها  إلي الهيئة العامة للتأمين الصحي !

وزارة فاشلة ؛ لماذا نبقي عليها ؟!!!

في التأمين الصحي النظام كله تكافلي اجتماعي ، يعني المواطن يدفع اشتراك رمزي  ويحصل علي خدمات صحية حقيقية متميزة بلا حدود !

نتمنى أن نجد مرة واحدة مسئولين  علي قدر المسئولية  

يدهم ليست مرتعشة ، تفكيرهم ناضج  وواقعي لحل مشكلات الشعب المصري البائس المريض !!

اللهم اشف  مرضانا يا ارحم الراحمين .

ــــــــــــــــــــــ والله الموفق والمستعان  ـــــــــــــــــــــــ

                               أحمد عبد اللطيف النجار

                                       كاتب عربي