الثلاثاء، 27 مارس 2018

سرديات قصيرة ///// شماتة المانح //////////////////////////////////////////////

سرديات قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــ

                      شماتة المانح
                                         بقلم
                             أحمد عبد اللطيف النجار
                                     أديب  عربي

يقول الشاعر العربي :
واذكر فضائل صنع الله إذ جعلت      عندك لا لك عند الناس حاجات
ويقول الإمام عَلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : احتج إلى من شئت تكن أسيره ؛ واستغن عمن شئت تكن نظيره ؛ وأحسن إلى من شئت تكن أميره !
ذلك هو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ، والحياة من حولنا مليئة بالقصص والعبرات لمن شاء أن يتعظ ويعتبر من تلك المدرسة الكبرى ؛ إنها مدرسة الحياة.
قصتنا اليوم تجسّد لنا نوعاً من البشر غلاظ القلوب ؛ منعدمي الإنسانية ، إنها قصة صاحبي سليم الذي جاءني ذات ليلة حائراً حزيناً ، مشتت الذهن يقول : نشأت في أسرة مكونة من أم مطيعة ومغلوبة على أمرها ، وأب ظالم ؛ متسلط ومتجّبر في معاملته لي ولأمي ولأختي الوحيدة التي تصغرني ، فقد كانت اللغة الوحيدة التي يستخدمها في التعامل معنا جميعاً هي العصا التي يستعملها باستمرار ولأتفه خطأ حتى ولو كان عدم وجود الشبشب الذي يستعمله في مكانه ، أو عدم وجود الملاّحة بجوار الطعام !
عشت طفولتي البائسة في هذا المعتقل وعلّمتني أمي المسكينة أن أطهّر جروحي وجروح أختي الصغيرة بالكحول وصبغة اليود كلما استخدم أبي معنا قسوته المفرطة في الضرب !
كان أبي لا يتناول طعامه إلا وحده وفي حجرته ، أما أنا وأمي وأختي فنأكل معاً ما يتبقى من صينية الطعام بعد خروجه من حجرته !!
ذات يوم لا أنساه وأنا في العاشرة من عمري وأختي في الثالثة من عمرها عاد أبي من عمله فلم يجد طعام الغداء معداً بسبب قهري هو مرض أمي في ذلك اليوم ؛ وتوقعت أن يثور ثورة عارمة كالعادة ولكنه لم يثر وإنما أمسك أمي من
يدها قائلاً  لها بكل بساطة أنتِ طالق وأمرها بمغادرة البيت مع أختي ؛ فجمعت أمي ملابسها القليلة  وسحبت أختي وغادرت البيت إلي بيت أسرتها في بلدة بعيدة خارج القاهرة ، وهممت بالبكاء وأنا ارتجف  خوفاً وحزناً مما حدث فزمجر أبي ي وجهي محذراً من شيئين لا عقاب لهما عنده إلا قتلي هما السؤال عن أمي والبكاء !!... واستسلمت لمصيري خائفاً مرتعداً وأصبحت وحيداً معه .
بعد عدة شهور وجدت أبي يسحبني من يدي إلى شارع بعيد وشقة أخرى أوسع من شقتنا  وأجمل ؛ ثم يقدمني إلي سيدة بيضاء تجلس في الصالة واضعة ساقاً على ساق تدخن سيجارة ويتحدث معها باحترام  وأدب قائلاً لها فيما يشبه الاعتذار : هذا ابني ؛ فتقول له فيما يشبه الأمر خذه إلى الحمام !!
ساعتها تساءلت بيني وبين نفسي  منْ تكون هذه السيدة ؟.. ومن هؤلاء الأطفال الصغار ؟!  ولم أجرؤ على السؤال خوفاً من العقاب ، وكيف يجرؤ على ذلك منْ تربي على الذل والقهر  والضرب مثلي ؟!!
لقد عشت في هذا البيت ثماني سنوات وعرفت بالتدريج أن هذه السيدة زوجة أبي أو بتعبير أدق هي زوج أبي لأنها المتحكمة فيه وفي كل شيء ؛ ولا يجرؤ على مخالفتها في شيء علي عكس الحال مع أمي  الضعيفة التي حُرمت من حنانها !
ولاقيت في بيت زوجة أبي  ما لاقيت من عذاب وهوان ؛ فكنت أعيش خادماً لها ولأولادها ؛ أقوم بتلبية كل طلباتهم ومسح أحذيتهم وغسل ملابس الأطفال الرضع منهم الذين أنجبهم أبي من الهانم !
ذات يوم تجرأت واستأذنت الهانم للخروج بعض الوقت وكان يوم جمعة ؛ فهوى كفها على وجهي بصفعة قاسية تلتها صفعات وركلات لا نهاية لها حتى جاء أبي فصرخت فيه بأنها لا تريدني في البيت وإذا لم يعجبه ذلك فليذهب هو الآخر معي!
لم انتظر قرار أبي وإنما هرولت خارجاً إلى الشارع لا أعرف أين أذهب ؟!!\
وسرت على قدمي من شارع قصر النيل  إلى  ميدان الحسين  وأنا أفكر في مصيري وكيف أسافر إلى أمي التي لم أرها منذ ثماني سنوات ؟!!
درت حول مسجد الإمام الحسين ووقفت أمام الضريح ووجدت نفسي أمسك بحديد نافذته المطلة على الشارع أصرخ وأبكي بلا انقطاع لفترة طويلة ؛ وحين هدأت نفسي سألني رجل فاضل يبدو على مظهره أنه من أعيان الريف عما يجعلني أصرخ بهذه الطريقة ؛ ووجدت نفسي دون وعي مني أروي له مأساتي ؛ فنظر الحاج عبد الرحيم إلىّ متعجباً  ومتألماً وسألني عن عنوان أبي ؛ ثم
اصطحبني إلى مطعم كباب  وحثني على الأكل حتى الشبع وهو يسألني عن التفاصيل ، ثم غادر المطعم معي إلي بيت زوجة أبي  ورجاه أن يسامحني ويعيدني إلى البيت  لأنه لا مكان آخر لي أذهب إليه ؛ فإذا بأبي  يرفض بعناد وعنجهية  ويطلب مني الذهاب إلى أمي أو إلي أي مكان أريده ، فهدده الحاج عبد الرحيم باللجوء للشرطة لإرغامه على رعايتي ؛ لكنه أصّر على موقفه !
ساعتها خرج الحاج عبد الرحيم يائساً وركب القطار إلى بلدته بالصعيد وأنا معه ؛ ولأول مرة أشعر في بيت الحاج عبد الرحيم إنني إنسان أنام على فراش وأتناول غدائي مع الرجل الطيب في الشونة التي يمتلكها ؛ فهو تاجر أسمدة وصاحب أطيان كثيرة .
كان أبي سامحه الله قد أخرجني من المدرسة قبل عامين ، فعملت مع الجل الطيب في الشونة وقدمني لأهل قريته على أنني قريب من بعيد وقد مات أبواي في حادث تصادم !
عشت معه عامين كاملين لم أجد منه سوى الإكرام والعطف ؛ ثم اصطحبني ذات مرة أخرى إلى أبي عسى أن تكون الأيام قد أيقظت ضميره ؛ فإذا بأبي يصدم الرجل مرة أخرى بأنه  لا يريدني ولا يريد أن يسمع اسمي أو يرى وجهي أو يعرف عني أي شيء !!
ساعتها يئس الرجل تماماً منه ؛ فطلب أن يسلّمه شهادة ميلادي ليستخرج لي بطاقة شخصية ؛ فادعى أبي في البداية ضياعها ، لكن الرجل الطيب رفض مغادرة البيت إلا ومعه الشهادة  ، ولم تكن الهانم ( زوج) أبي في البيت خلال هذه الزيارة ؛ فخشي أبي أن تعود فجأة وأنا والحاج عبد الرحيم في البيت ، فأقسم أبي له بالطلاق أنه سيبحث عنها ويرسلها له بالبريد في بلدته ليتخلص منا !
رجعنا إلي البلدة ولم يمض أسبوع حتى تلقي الحاج عبد الرحيم  شهادة الميلاد في البريد ، وكان هذا هو الواجب الوحيد الذي أداه أبي لي !
وعلي الفور استخرج الرجل الطيب لي البطاقة الشخصية ؛ وواصلت حياتي وعملي معه ؛ وكل يوم يمر ازداد حباً وعرفاناً له وأصبحت أناديه بكلمة عمي  وأعيش في كفالته وأشاركه عمله في التجارة وفي الإشراف علي أرضه الواسعة ؛ وأمسكت بكل حساباته  وحفظته في ماله وبيته وأسرته .
مضت السنوات سريعاً وأنا أعمل معه في التجارة  والإشراف على الأطيان والأملاك وتزوجت من إحدى قريباته ، وتزوجت ابنتاه الوحيدتان فاعتبرت نفسي
أخيهن المسئول عن حمايتهن وسلامتهن ، وبعد أن انتقلتا إلي بيت أزواجهن طلب مني عمي عبد الرحيم أن انتقل للإقامة معه أنا وزوجتي لأنه أصبح وحيداً ؛ فانتقلنا للبيت الكبير وأصبحنا أنا وزوجتي نعيش معه ولا نتنافس في شيء سوى خدمته ... بعد سنوات عدّل عمي عبد الرحيم سجله التجاري وأدخلني معه فيه ومارست معه التجارة بإخلاص ونشاط أكثر من ربع قرن حتى أصبح لي رأس مال صغير خاص بي يعرف عمي مصدر كل قرش فيه !
منذ فترة فوجئت  وأنا جالس في فراندة البيت الكبير برجل غريب يدخل علىّ وقت الضحى ويقول لي أنه (( أبي)) وأنه قد أصبح عجوزاً مريضاً بلا مأوى لأن الهانم زوجته قد تشاجرت معه وطردته من بيتها فلم يعرف أين يذهب ، وأخيراً قرر أن يذهب إلى بيت ابنه الذي فتح الله عليه وأصبح من كبار تجار الأسمدة في الصعيد !
هكذا ببساطة تذكرني أبي بعد أن طردني من حياته شر طردة .. جاء يطلب مني مبلغاً كافياً من المال لكي يقيم في لوكاندة بالقاهرة ؛ حدث كل ذلك وأنا جالس في مقعدي ولم استطع أن أفكر مجرد التفكير في مساعدته ، وكيف أساعده ةهة الذي تخلى عني وعن أمي وأختي طوال حياته ؟!... نعم لم أستطع وقلت له في هدوء غريب  ما زلت استغرب له : إن ( ابنه ) الذي يطلب ضيافته ومعونته الآن قد مات منذ ربع قرن ؛ وطلبت منه ألا يرجع للسؤال مرة أخرى ، ولم اهتز أو تهتز شعرة واحدة في رأسي وهو يحاول شرح الظروف التي دفعته للتخلي عني ، لكنني لم أدعه يكمل حديثه وأمرته بالانصراف ورجع أبي من حيث جاء !
أعرف أنك تقول على الآن أنني متحجر القلب والمشاعر ؛ لكن هذا ما حدث وأرجوك ألا تظن أنني بعيد عن الدين ، فأنا أؤدي فروض ديني وأخشى ربي وأقرأ القرآن الكريم كل يوم .
·  تلك مأساة صاحبي سليم ؛ ذلك الشاب المسكين الذي ظلمه أبيه صغيراً فعقه عندما شب عن الطوق وبلغ مبلغ الرجال !
الواقع المُر يقرر أن هذا الأب المريض سلوكيا لا يستحق لقب أب ؛ لقد انقاد وراء أهوائه وغرائزه كما تنقاد البهائم تماماً !
ورغم ذلك كان الواجب علي صاحبي سليم ألا يهين والده بتلك الطريقة القاسية ، فهو في النهاية أبيه وقد حثنا المولى عز وجل علي البر بالوالدين  والإحسان إليهما ، وجميعنا نعلم قصة عملاق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الابن العاق الذي أطلقه بغير عقاب قائلاً لأبيه : لقد عققته قبل أن يعقك !
لكنني أسأل  صاحبي سليم من ناحية أخرى ، لماذا لا تكون شماتتك في أبيك شماتة المانح  لا شماتة المانع ؟! .. لماذا لم تستشعر الرضا عن نفسك والشكر لربك أن وجدك عائلاً فأغنى ، حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه أبيك الظالم الجبار يقف منك موقف السائل الذليل لمعونتك وعونك ؟!
لقد رأيت فيه ( ثأرك) وبرهان ربك ووعده الأبدي بنصرة عباده المستضعفين ولو بعد حين !
لماذا لا نفعل كما يفعل الحكماء من البشر الذين يتعظون ويعتبرون بانكسار الظالمين الجبارين بين أيديهم فيزدادون إيماناً بربهم وعدالته ويستغفرون الله ويرجون دوام نعمته ؛ ثم لا يحجبون عطائهم حتى لمن جحدهم من قبل ؟!
وكل إناء بما فيه ينضح  كما يقول المثل العربي القديم ، وأباك قد أنفق معك في طفولتك وصباك من أنانيته وجهله وعدوانيته  وظلمه ؛ وعار كل ذلك يقع عليه هو وحده  وحسابه عند الله عسير بإذن الله ، وأنت تملك أن تنفق عليه مما عندك من كرم وسماحة وطاعة لله واستشعار لنصره لك على من ظلمك !
لا تستسلم لإحساس الشماتة البدائي هذا فيغيب عنك شكر ربك على نعمته ، وإنني عاتب عليك أشد العتب لتجاهلك أمك وأختك الوحيدة بعد أن أكرمك الله من فضله  ورزقك من حيث لا تحتسب ، فكان الواجب عليك أن تذهب وتبحث عنهم  كي يلتئم شمل الأسرة من جديد !
فيا صاحبي المكافح سليم اشمت كما شئت من أبيك الذي لا يستحق لقب أب  ، ما دمت  لا ترى نفسك قادراً على الترفع عن ذلك ، ثم صارح عمك عبد الرحيم ذلك الرجل الطيب بما حدث  واسع إلى أبيك في مكانه بالقاهرة  ، قدّم له  عونك المحدود في أواخر أيامه شكراً لله على نعمته وليس إكراماً له !
والله لقد رأيت في قصتك الكثير من العبر والآيات جسدّها لنا ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وتلك هي الحياة الدنيا دار ابتلاء وامتحان إلى يوم الدين .

                                                   أحمد عبد اللطيف النجار

                                                          أديب  عربي

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية