الأحد، 25 مارس 2018

سرديات قصيرة ///////////////////////// القبيلة !! /////////////////////////////////////

                          القبيلة !
                                        بقلم  
                           أحمد عبد اللطيف النجار
                                  أديب  عربي
                               
لكل قاعدة استثناء ، لكن نجد في أحيان كثيرة استثناء بلا قاعدة ، فليس كل القرارات الخاطئة التي يتخذها أي إنسان تؤدي حتماً إلى أخطاء أخرى أكبر !
بل قد يخطئ أحدنا في قرار ما ويجد النتيجة رائعة وأكثر من رائعة ، لكن تلك حالات فردية لا يصح أن تكون هي القاعدة !
مسعود فتى يافع نشأ في أسرة طيبة بإحدى مدن الوجه البحري في مصر ، أبيه من الأعيان يمتلك ستين فداناً ولكنه عملياً من متوسطي الحال لأن أرضه كلها كانت مؤجرة ولا يتقاضى عنها إلا إيجارا زهيداً ، حين بلغ الفتى المرحلة الثانوية تعثر في دراسته ورسب مرتين ، فقررت أسرته أن ترسله للإقامة مع خاله الأعزب الذي يقيم بالقاهرة ، كي يلتحق  بإحدى مدارسها ويخضع لإشراف خاله ، خاصة وأن شخصية خاله صارمة حازمة ، وشاءت الأقدار أن تتكرر نفس الظروف مع صفية ابنة خالته التي حصلت على حصلت على الإعدادية بمجموع ضعيف لا يؤهلها للالتحاق بالتعليم الثانوي العام ، فرأت أسرتها أن ترسلها هي أيضاً للقاهرة لتكون تحت رقابة خالها الصارم  وتلتحق بمدرسة خاصة هناك .
هكذا جمعت الدراسة بين مسعود وصفية ابنة خالته في شقة خالهم الأعزب ، تخدمهم سيدة مسنة ويتابع الرجل دراستهم وأحوالهم في نظام صارم .
في ظروف الغربة عن الأهل والشكوى من شدة خالهم معهما ، وجد الفتى والفتاة نفسيهما يتبادلون مشاعر الحب الطاهر البرئ وهما في هذه السن الصغيرة !
هم لا يدركان إن كان حبهما حقيقياً أم حب مراهقة ، لكنهما رغم ذلك تعاهدا على
الزواج ... مضى العام الدراسي ونجح الفتى مسعود في الثانوية العامة بما يشبه المعجزة والتحق بالمعهد العالي للتربية الرياضية ، واجتاز الاختبارات الرياضية بالتوصية والواسطة لأنه لم يمارس في حياته أي لعبة رياضية ، ونجحت كذلك صفية ابنة خالته بالمدرسة الثانوية وعادت لتقيم مع أسرتها .
انتظم مسعود في دراسته ومن حين لآخر كان يزور أسرنه ويجدد العهد مع صفية ابنة خالته على الزواج ، ومرت الأيام حتى وصل الفتى للسنة الثالثة بالمعهد ووصلت صفية إلى الثانوية العامة ، وتهافت الخطاب عليها لجمالها وثراء أسرتها ، وكلما تقدم لها عريس رفضته انتظاراً لفتاها مسعود ، إلى أن تقدم لها عريس ممتاز من كل الجوانب ، فأرغمتها أسرتها على قبوله وحاولت هي الإعتراض بكل وسيلة فلم تثمر محاولاتها سوى تأجيل عقد القران حتى تؤدي امتحان آخر العام !
ساعتها واجه الفتى والفتاة الكارثة التي تهددهما بالفراق حتى آخر العمر ، وتشاورا فيما بينهما ، وحثتهما عقولهما الصغيرة إلى قرار خطير هو أن يضعا أسرتهما لأمام الأمر الواقع ، وأخبر كل منهما أهله بأنه لن يتزوج سوى الآخر مهما حدث ، وواجهتهما عاصفة من اللوم والسباب والإهانة !
وبعدة خفوت العاصفة اجتمعت الأسرتان وقررتا تزويجهما تجنباً لاتساع المشكلة مع مقاطعتهما نهائياً !!
كان الحل الذي توصلت إليه الأسرتان هو أن يرحل مسعود وزوجته عن البلدة ويقيما في شقة بمدينة القاهرة ، وأن يساعدوهما بمبلغ عشرين جنيهاً كإعانة شهرية كي يعيشا بهذا الدخل البسيط في المدينة الكبيرة  ويتحملا مسئولية حياتهما وإجرامهما في حق الأسرتان !
تم الزواج وكان الفرح كالمأتم الحزين ، وسعد الزوجين بذلك رغم الإهانات والاحتقار .. انتقل مسعود وصفية إلى الشقة الصغيرة التي تم تجهيزها في أضيق الحدود مراعاة لظروف والد مسعود المالية .
واجه الفتى واقعه الصعب الجديد وبدخل شهري بالبريد قدره عشرين جنيهاً لا غير !... مع ذلك فقد سعد الفتى باجتماع شمله مع حبيبته صفية ولم تمض أسابيع حتى كانت زوجته حامل ؛ وفكر في مستقبل الجنين وهو لا يستطيع أن يلبي حاجة بيته للطعام ، وقرر مع زوجته بيع ذهبها وأن يشتري بثمنه سيارة أجرة مستعملة ، وتعلم مسعود القيادة ليعمل عليها بعد الدراسة في المعهد ، واشترى السيارة بالفعل وبدء العمل عليها بعد الظهر وفي أيام الإجازات ، وقرر
مع زوجته وحبيبته صفية أن يتوقفا عن قبول المساعدة الشهرية من أبيه وصهره لكي يستعيدا بعض احترامهما في أعين الأهل الذين احتقروهم ، وتحسنت أحوالهما قليلاً ووضعت زوجته حملها فإذا به تؤم من ولدين بدلاً من ولد واحد ، سعد بعهما الزوجين سعادة طاغية وأسموهما أسعد وسعيد . بعد شهرين من مجيئهما للحياة حملت صفية مرة أخرى ، واستقبل مسعود عامه الأخير بالمعهد وقبل أن تُعلن النتيجة وضعت زوجته الحبيبة حملها الثاني فإذا به تؤم من ولدين أيضاً أطلقوا عليهم سعد وسيد ولله في خلقه شئون ، مرت الأيام وتخرج مسعود من المعهد وعمل مدرساً بمدرسة إعدادية بمحافظة القليوبية وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين وهو أب ويعول أربعة أطفال ، وحين كان زملائه بالعمل يسألونه عن حالته الاجتماعية ويجيبهم بالحقيقة كانوا يندهشون ويتعجبون كيف يواجه مسئولية أسرته الكبيرة بمرتب لا يزيد عن 23 جنيه ؟!
لكن مسعود كان يجيبهم بأنه يكافح لإعالة أسرته بعد العمل بسيارة أجرة ، وأن كل مصاعب الحياة تهون عليه حين يعود إلى بيته الدافئ بالحب ويجد فيه أم أولاده بنت العشرين ربيعاً تحوط أولاده بالحب والرعاية .
مرت الأيام وظل أهلهم علي موقفهم رغم استغنائهما عن أي معونة منهم .
وحملت صفية للمرة الثالثة ولم تكن راغبة هذه المرة في الحمل والإنجاب لكنها إرادة الله ومشيئته ، وضعت صفية حملها للمرة الثالثة تؤماً من ولدين أسميناهما سامي وسامح . وأصبح لديهم ستة أطفال ذكور ومسعود ما زال في الخامسة والعشرين من عمره ، أصبح هو وزوجته وأطفاله الستة حديث الأقارب  وموضع إشفاق بعضهم ، رغم ذلك استمرت الأسرتان في موقفهما  من الحبيبين، وضاعف من عناءهما  أن تأجيل تجنيد مسعود قد انتهى ، فتقدم  لأداء الخدمة العسكرية بعد حرب أكتوبر المجيدة  وانقطع جزء كبير من دخله من السيارة التي كان يعمل عليها ، لكنه تحمل مع زوجتي كل شيء وانتهت فترة الخدمة العسكرية بعد عناء شديد ووجد الرجل العبء قد أصبح ثقيلاً على كاهله ،  وزوجته صفية التي نشأت وتربت في العز ولم تعرف الفقر أصبحت تفصل من فساتينها القديمة ملابس لأطفالهم الرضع ، وبدأت ملابسها التي جاءت بها من عند أسرتها تبلى من كثرة الاستعمال ولا تستطيع شراء غيرها  وقد اخشوشنت يداها من غسيل ملابس أولادهم الرضع كل يوم عدة مرات وخدمتهم الشاقة طوال اليوم ، والطهي والكنس والنظافة ، وكلما أشفق مسعود عليها مما تتحمله من عناء هوّنت عليه مصاعب الحياة وبشرّته بأنه سوف أكون أحسن رجل في الأسرة وسوف تثبت الأيام لكل من ازدروهم واحتقروهم إنها اختارت الاختيار الصحيح ، فكان يدعو لها بالصحة وطول العمر جزاء رفعها روحه المعنوية ... مرت الأيام وذات يوم قرأ مسعود إعلان عن مسابقة لتعيين مشرفين رياضيين بالجامعة ، فتقدم للمسابقة ولم يكن أفضل المتقدمين ولا أحسنهم لكن الله سبحانه وتعالى أراد له النجاح ، ربما لأنه وهو يتقدم بالطلب استحضر في خياله عيون زوجته وأطفاله الستة حين يرجع إليهم بالنتيجة وتسأله صفية بلهفة عما فعل ، فلم يشأ الله أن يخذلها وتم تعيين مسعود مشرفاً رياضياً بالجامعة واتسعت أمامه أبواب الرزق وازدادت ساعات عمله على سيارة الأجرة وتخفف من بعض متاعبه ، وكبر أولاده التوائم وزادت نفقاتهم ومطالب المعيشة .
في تلك الفترة حاول مسعود كثيراً السفر للخارج وتقدم بطلبات كثيرة لجهات متعددة دون فائدة ، إلي أن تقدم إلى إعلان للعمل برعاية الشباب بدولة الإمارات العربية وتحققت المعجزة وتم اختياره وسافر مع زوجته وأطفاله الستة  إلى هناك بعد أن باع السيارة الأجرة ، واستقرت حياتهم هناك وتفانى مسعود في عمله الجديد ، ثم حدث ذات يوم أن تقابل مع أحد المصريين العاملين هناك ، الذي أخبره أنه توجد قطعة أرض مباني بالهرم تُباع بألفي جنيه للقيراط  وأوصاه بالشراء منها عند عودته لمصر لأنها فرصة طيبة لن تتكرر ، وعندما عاد مسعود لمصر توجه إلى عنوان ذلك الشخص الذي استقبله بترحاب شديد واصطحبه إلى صاحب الأرض  التي حكي له عنها ، وقام مسعود بالفعل بشراء قطعة أرض ممتازة بعشرة آلاف جنيه وأصبح مالكا لقطعة أرض لأول مرة في حياته !
بعد فترة من إقامتهم ب في شقتهم القديمة بالقاهرة استخار مسعود ربه وقرر السفر إلي بلدته بمدينة الزقازيق التي لم يدخلها منذ أكثر من عشر سنوات ليصالح أبيه وأمه ويسترضيهما ، ذهب مسعود إليهم طالباً العفو والسماح عن اندفاع الشباب ، وفعل نفس الشيء مع أسرة زوجته طالباً الصفح عن كل ما كان ، وعاد الزوجين للقاهرة راضيين سعداء ، وفجأة توفي والده راضياً عنه وفي نفس العام مات حماه وكان تاجراً كبيراً ، ساعتها تعجب مسعود من حكمة القدر وقد هبطت عليهم فجأة ثروة كبيرة جداً من ميراثه هو وزوجته صفية .
ساعتها تذكر أيام الحرمان والشقاء  وليالي الضيق الطويلة التي لم يخففها عنه سوي حبهم الكبير ، ولم يملك الرجل إلا أن يسجد لله شكراً على نعمته وفضله ،
ولقد مضت السنوات سريعاً وبلغ مسعود الآن العقد الخامس من عمره وهو مازال يعمل بالخارج ، وحصل أولاده التوائم كلهم على أعلى الشهادات الجامعية من كليات الطب والهندسة والصيدلة والعلوم والحاسب الآلي ، وأصبح لهم بيتاً جميل تم بناؤه في قطعة الأرض التي اشتراها في منطقة الهرم والتي تضاعف سعرها عشرات المرات وكان شراؤها توفيقاً من الله ، وقام أبو التوائم بتزويج أولاده كلهم وتحققت نبوءة صفية وبشارتها فأصبح وضعهم المالي في القمة بين الأسرتين ، وكان مسعود وفياً بأهله وأقاربه فلم ينس حقوق والدته عليه وكذلك صفية  لم تقصر في حقوق أمها ، كما لم ينس حقوق المساكين فيما أنعم الله به عليه  وسبحان الله ..( يرزق من يشاء بغير حساب ) .
لقد كانت حياة مسعود وصفية ملحمة حقيقية للكفاح والصبر والمعاناة ، وقد جسّدت لنا تكاتف الأزواج واتحادهم أجمل تجسيد ، ورأينا كيف جرت القصة كلها من بدايتها ضد كل ما يقضي به العقل والحكمة وتجارب الحياة ، هي بالفعل استثناء بلا قاعدة ، ورغم ذلك فقد أثمرت  ثماراً طيبة يندر أن تثمرها أي تجربة مماثلة ، فكان ما فعله الرجل منذ البداية هو الخطأ الذي جاءت نتائجه مبهرة !!
لأنه من المعروف سيكولوجياً أن حب المراهقة ليس حباً حقيقياً يصمد للزمن وإنما هو غالباً عاطفة شهوة مشوشة مغلفة بالأحلام ، معرضة للتقليب والتغيير مع تغيير المزاج النفسي للإنسان الرشيد وتخلصه من مزاج المراهقة المتقلب !
لكننا رأينا في قصة مسعود وصفية تجربة استثنائية تماماً ، فقد نجح زواجه من صفية ابنة خالته ، وصمد زواجهما وأثمر ثماره الطيبة رغم صعوبات البداية ، فتلك الصعوبات نفسها  قد استثارت فيه هو وزوجته إرادة التحدي والكفاح للحفاظ على الأسرة التي تحملا نبذ الأهل واحتقارهم من أجلها ؛ كل ذلك استنفر في الزوجين كل ملكات الإرادة والرغبة في النجاح تجنباً لشماتة الشامتين .
أكثر ما أثارني في تلك الملحمة الاستثنائية هو منظر تلك القبيلة الصغيرة العجيبة التي تكونت سريعاً خلال ثلاث سنوات فقط وضمت ستة أطفال ذكور لا يزيد فارق السن بين كل توءم  على عام واحد فقط !
لقد صهرتهم تلك القبيلة الصغيرة من الصغار في بوتقة واحدة وذابت معهم كل نظريات علم النفس عن المراهقة وتقلباتها ، ذلك أن ستة أطفال  صغار أعمارهم متقاربة بهذا الشكل العجيب كفيل بكل تأكيد أن يصرف الإنسان عن أي شيء آخر في الحياة سوى الحفاظ علي تلك الثروة الإنسانية  والوصول بها لشاطئ الأمان .
                                                     أحمد عبد اللطيف النجار
                                                      أديب عربي




0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية