الثلاثاء، 20 مارس 2018

  القصص الهادف
              بيت اليهود !
                                           بقلم   
                          أحمد عبد اللطيف النجار
                              أديب  ومفكر  عربي


شاهدنا في ستينيات القرن الماضي الفيلم الكلاسيكي العربي الإخوة الأعداء ، المأخوذ من رواية الأديب الروسي العالمي انطون تشيخوف ( الإخوة كرامازوف)  ... وقد جسّد لنا الفيلم واقعاً مُراً لأسرة مفككة يسود بينها جو من الحقد والكراهية ، سواء من ناحية الأب لأبنائه أو بين الإخوة أنفسهم ، فرأينا من يمشي وراء غريزته كالبهائم تماماً ، ومنهم الملحد الذي ينظر للحياة نظرة مادية بحتة ، ومنهم المصاب بالصرع ( يا له من مرض صعب جداً) .
هكذا عشنا مع مأساة حقيقية تحدث ( أحياناً ) في الواقع نتيجة التربية الخاطئة من الأب الذي غرس بذور الكراهية والحقد بين
أولاده دون وازع من ضمير أو دين !
زينب ، فتاة نشأت في أسرة ثرية بين أبوين كبيرين وأختها سميحة وأخيهن الوحيد عاصم .
عاشت تلك الأسرة منغلقة تماماً علي نفسها، فيها الكثير من القيود والسدود ، يعيشون في عزلة تامة وشبه قطيعة مع باقي البشر والأهل والجيران وحتى الحيوانات !!
لا يطرق بابهم أحد ولا يزورون أحد تجنباً لمشاكل التعامل مع الناس ، كما كان أبيهم وأمهم يحذرونهم دائماً !
نشأ الأبناء وكأنهم يعيشون في معسكر لا هدف لهم فيه سوى التعليم والتفوق والالتحاق بكليات القمة  والتخرج فيها .
كانت علاقة الإخوة ببعضهم يسودها البرود العاطفي ؛ فلم يعرفوا أبداً دفء علاقات الإخوة ولا العاطفة الأخوية ، حتى أن الجيران كانوا يسمون مسكنهم بيت اليهود !!
فهم لا يقتربون من أحد ولا يشجعون أحد علي الاقتراب منهم ، ولا يعرفون أي شيء عن العالم الخارجي المحيط بهم ، وكان الأبوين لا ينزعجان أبداً لانعدام الأواصر الأخوية بين أولادهم ، ولم يشجعونهم علي تعميق تلك الأواصر لأنهم يعتبرون أن ذلك شيء طبيعي ، فالأواصر منعدمة أصلاً بين الأب وإخوته من الأعمام والعمات ، ومنعدمة كذلك بين الأم وأخواتها من الخالات والأخوال !!
علي هذا النحو أكمل الأبناء مسيرتهم الناجحة في التعليم  والتفوق حتى تخرجوا جميعاً في كليات القمة ، وفجأة رحل رب الأسرة عن الحياة ولحقت به أمهم بعد شهور قليلة ، تاركين لأبنائهم ميراثاً كبيراً من المال ، وميراثاً أكبر من الحقد والغل وانعدام أواصر المحبة بينهم !
بعد رحيل الوالدين تفرغت الابنة الكبرى سميحة للحصول علي
الدكتوراه ، ثم هاجرت لأمريكا لاستكمال دراستها واستقرت هناك وتزوجت ولم يسمع عنها إخوتها شيئاً بعد ذلك ، أما عاصم فقد كان كل همه الفوز بأكبر نصيب ممكن من ميراث إخوته البنات حتى ظفر بما أراد من غنائم وتزوج وترك أخته زينب وحيدة  وسط أمواج الحياة بلا سند ولا معين من أهل وأقارب ، فلا يعلم أحد عنهم أي شيء ولا ينتمون إلي عائلتهم إلا بالاسم فقط !!
مرت الأيام ثقيلة طويلة علي زينب حتى تعرفت ذات يوم علي شاب له مستقبل كبير وشخصيته طيبة متفتحة وعلى خلق كريم ، وجدت فيه المسكينة ضالتها وارتبطت به وتزوجته رغم معارضة أهله في زواجه منها بسبب سلوك عائلتها المريض الشاذ ، وانقطاع أواصر المحبة والصلة بين أفرادها !
عاشت زينب أياماً هادئة جميلة مع ثروت ورزقها الله طفلة جميلة ثم طفل آخر ، اكتملت به سعادتهم وأفاض الله على زوجها من فضله وكرمه ووسع عليه رزقه ، ودائماً كان هو القلب الحنون الصبور الذي يتحمل عصبية زوجته بهدوء كبير وابتسامة أكبر !
كانت المشكلة الكبرى التي تواجه زينب هي نمط العلاقات العائلية والأخوية التي لم تألفها من قبل في حياتها السابقة ، فزوجها ثروت من عائلة ريفية كثيرة العدد ومترابطة فيما بينها ولها تقاليدها في الزيارات وتبادل الدعوات والمجاملات في المناسبات المختلفة ، كل هذا لم تعرفه زينب ولم تتعود عليه من قبل ، كما أن زوجها ثروت شديد الالتصاق بأبويه وإخوته ، شديد الحنو والعطف عليهم ، يغدق عليهم من ماله مما سبب بعض الضيق لزوجته ، فكان يقول لها أن الله يرزقه من حيث لا يدري ولا يحتسب ، وإنه لا يقصر مع أهل بيته ، فما المانع أن يشعر أهله وإخوته بأثر بعض هذا الرزق عليهم حتى يسعد الجميع ويدعون له ولأولاده بالخير والبركة  ؟!
لكن عقل زوجته المتمردة لم يقتنع بذلك التفسير المنطقي ، وبدأت الهواجس تلاحقها من أن تحتل أسرته كل اهتمامه ، ولم تستطع التحكم في انفعالاتها وكانت تتعرض لأهل زوجها بالسباب الجارح في أي خلاف معه ، وكان ثروت حليماً صبوراً معها، فلم  يذكر أهلها بسوء أبداً !
تصورت تلك الزوجة الساذجة أن سماحة أخلاق زوجها تدوم إلي ما لا نهاية !.... لكن هيهات ،، هيهات ، فالصبر له حدود كما يقولون ، وقد فوجئت به في إحدى نوبات الشجار وبعد عِشرة أكثر من 15 عام ، فوجئت به ينفجر فيها لأول مرة كالبركان الثائر الذي كان خامداً ، ثم انفجر بالحمم دفعة واحدة وطلقها وهجر البيت تاركاً كل شيء وراءه !!
شعرت زينب بالندم ، فقد وجدت نفسها مطلقة ووحيدة وقد خسرت الإنسان الحنون الصادق الذي كان سندها الوحيد في الحياة ، ولم يتدخل أهل زوجها للإصلاح بينهم ، أما أهل زينب فليس بينهم من يهتم بأمرها أو ينصحها أو يسعى في مصلحتها !
إنها تشعر باللوعة والحسرة والندم ، وتقول أنها استوعبت الدرس جيداً لكن بعد فوات الأوان !
هي الآن تجني الثمرة المًرة لانقطاع أواصر الصلة بينها وبين الجميع، ابتداء من أخويها وأقاربها وأهل زوجها  وجيرانها ، فكانت تعيش في معسكر من الكراهية دستوره سوء الظن بالناس والعالم الخارجي كله !... وبدلاً من أن تحمد ربها  أن وضع في طريقها إنسان طيب ، رحيم ، سمح النفس ، بشوش الوجه ، وتتبادل مع أهله والآخرين حولها دفء العلاقات الإنسانية  الطبيعية ، إذ بها بدلاً من ذلك نراها دائمة العبوس في وجهه ، كثيرة المشاحنات على أتفه الأمور ، ولم تفكر أو تحاول أن تتعلم منه حسن الظن بالناس ،
وتحاول جذبه إليها ، بل كانت عامل طرد له ولكل من حولها !!
إنها لم تنعم معه بدفء العلاقات الأسرية التي حًرمت منها طوال حياتها في بيت اليهود الذي تربت فيه علي كراهية البشر والحجر والشجر وكل الكائنات !!
بل حاولت أن تكرر معه نفس التجربة الأليمة التي ذاقت مرارتها بانقطاع صلة الرحم بينها وبين  أخويها وعائلتها كلها ، إنها تعاملت معه بالمنطق الدار ويني  الذي يرى أن الكائنات تتصارع من أجل البقاء ، ويكون البقاء للأقوى ، فالقوي يغلب الضعيف ، والكبير يبتلع الصغير كما ابتلع شقيقها عاصم ((كل)) الميراث وحده !
تلك حقاً صورة بشعة من صور العلاقات الأسرية الشاذة التي لا توجد ( بكثرة) في مجتمعاتنا العربية والحمد لله .
لقد راهنت زينب علي طول صبر زوجها ثروت  واستكانته لها علي طول الخط ، لكن هيهات .. هيهات ، فالشخصية المتسامحة الصبورة  التي لا تتفاعل أولاً بأول مع العدوان عليها ؛ هي غالباً نفس الشخصية التي إذا فاض بها الإناء انفجرت براكينها فجأة ودمرت كل شيء في لحظات !
وهذا ما رأيناه بالفعل من رد زوجها الصبور ثروت !
وقديماً قالوا (( اتق شر الحليم إذا غضب )) !!
     

                                        أحمد عبد اللطيف النجار
                                          أديب ومفكر  عربي






0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية