سرديات قصيرة ///// حزن العمر !!! /////////////////////////////////////////////////
سرديات قصيرة
**************
حزن العمر
بقلم
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب ومفكر عربي
&& ليست مجرد
قصة &&
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
إنها حقاً أوقات عصيبة
ورهيبة ، تلك التي يفقد فيها
الإنسان أحد أولاده ، فيراه يموت بين يديه كل يوم مائة مرة !!
هذا ما عايشته بنفسي وأحاسيسي ومشاعري عندما كان ولدي
الحبيب عمر يعاني من ( سلسلة ) أمراض
مزمنة لا حصر لها ، شاءت إرادة الله أن يُبتلي بها منذ الساعات الأولي لمولده .
منذ الوهلة الأولي لرؤيته كانت الصدمة قاسية لمنظر
الوحمات الدموية المنتشرة في كل أنحاء جسده الصغير !!
لكنني وزوجتي الفاضلة حمدنا الله علي عطاءه وطمأننا
الأطباء بأن حالة ولدنا عمر ( نادرة جداً ) وتحدث في العالم كله كل ربع قرن بنسبة
واحد في المليون ، وأنه لن يتأثر بتلك الوحمات ، فحمدنا الله علي عطائه وتماسكنا
ومرت الأيام وكبر ولدي الحبيب عمر ، كانت الوحمات تكبر معه وتزداد ، وحاولت ومعي
أمه
المستحيل كي نعالجه من أثر تلك الوحمات القاتلة بعمليات
تجميل ، وكم من المرات وقعنا في وهم وعذاب أطباء التجميل المصريين ، الذين أوهمونا
(( كذباً)) بأنه يمكن إزالة الوحمات من جسد ولدي الحبيب عن طريق عمليات ((
الممددات)) أي زرع أنابيب طويلة تحت جلد المنطقة السليمة وجعلها تتمدد بالحقن
بالمحاليل لتحل محل المناطق المصابة في الجسد الضعيف الواهن !!!
واعترف بأنني لم أكن مقتنعاً بعملياتهم الوهمية تلك ،
لكني كنت مثل الغريق الذي يتعلق في قشة كما يقولون في الأمثال !!
وبالطبع فشلت (( كل )) عمليات التجميل الكبرى التي
أجريتها لحبيبي عمر ولاقي فيها من العذاب ما لا يحتمله بشر ، لكنه قلب الأم التي
تتمني أن تفعل لفلذة كبدها أي شيء لإنقاذه !
مرت تلك المرحلة الصعبة من حياة ولدي الحبيب
عمر ، لاقي فيها من الآلام ما لا يحتمله بشر ،، التحق عمر بالحضانة وعمره
لا يتعدى أربعة شهور ، كان دائماً بمنظر وحماته الدموية مثار دهشة الجميع
واستفساراتهم التي لا تنتهي !
عندما بلغ عمر عامه الرابع بدأ يسألني : ما هذه البقع السوداء علي جلد يدي
يا أبي ؟!!... فأجيبه بأن هذا قضاء الله يا ولدي ... هذا قضاء الله يا ولدي ، وإذا سألك أي إنسان عن تلك الوحمات قل له هذا
قضاء الله ... هذا قضاء الله .
مرت الأيام والتحق عمر بالصف الأول الابتدائي بمدرسة أبو عامرذ الابتدائية ، التي لم يذهب
إليها سوي يومان فقط ، وقع بعدها عاجزاً عجزاً كلياً عن الحركة ، وتضاعفت آلامه
بصورة رهيبة ، وتدهورت حالته الصحية لدرجة أنه قد رقد علي الفراش ثلاثة شهور
متوالية ليس علي فمه سوى الآهات ..آه ... آه ..آه ...آه .. وذلك من شدة الألم ،
وأنا ((( عاجز ))) عن عمل
أي شيء له في
وطن الوساطات والمحسوبية ،، لو كان ولدي عمر رحمه الله ابن وزير او مسئول مهم في
الدولة ، لصدرت له أوامر سفر فورية للعلاج علي نفقة الدولة !!
لكن كان ذلك مستحيلاً في ظل حكم زعيم اللصوص العرب حسني
الغير مبارك !!!
لقد فقد ولدي الحبيب حواسه كلها بسرعة رهيبة ،، كل يوم
حاسة ،، والله العظيم كل يوم حاسة أمام عيني وأنا عاجز عن عمل أي شيء لإنقاذه
!!!!!!!!
حتي فاضت روحه الطاهرة إلي بارئها ليلة عيد الفطر
المبارك سنة 2004 ميلادية وإنا لله وإنا إليه راجعون ...إنا لله وإنا
إليه راجعون .
نفس الموقف حدث مع السيدة المؤمنة المبتلاة الصابرة
فاطمة ، التي جاءتني ذات يوم وعلي وجهها
علامات الرضا والإيمان قائلة : فقدت ابني
الصغير وعمره لا يتجاوز خمسة أعوام ، ذلك الطفل البرئ الذي كان كالزهرة المتفتحة
وصاحب الابتسامة الساحرة ، إنه ولدي الحبيب محمود الذي عشت معه الأمومة الفياضة
بمعناها الحقيقي ، ولم يفارق حضني طوال السنوات الخمس السابقة ، فهو معظم النهار
في حضني وطوال الليل في حضني !
كانت ابتسامته العذبة وكلمة منه تنسيني الدنيا وما فيها
، وقبل أن يتم عامه الثالث هاجمه المرض اللعين ، فتغيرت صورته الجميلة إلي صورة لا
يمكن لأحد أن يتخيلها ، حتي أننا كنا نحجبه عن أعين الناس حتي لا نؤذيهم برؤيته !!
بدأنا رحلة العلاج المريرة بالشعاع الذري والكيماوي ،
وتعّرض ولدي الحبيب للموت بعد بدء العلاج وفقد الطبيب الأمل في نجاته
تماماً !
انتظرنا حلول الأجل ولكن شاءت إرادة الله أن ينجو ويتماثل
للشفاء وأن يعود إلي صورته الجميلة الأولي ، وعادت الفرحة لقلوبنا الحزينة ، وفجأة
هاجمه المرض الشرس مرة أخري بعد أربعة شهور فقط ، وكان يتحسن بعد العلاج ثم لا
يلبث أن تحدث له انتكاسة كبيرة ، فلا تكتمل فرحتنا ويعود المرض للظهور مرة أخرى !
تحمّل طفلي الحبيب محمود آلامه في صمت وصبر كأنه رجل
كبير ، كان يفرح كلما رأى تحسناً في صحته ويستيقظ من النوم ويجلس بجانب يضغط علي يدى ويقبلها قائلاً : بحبك
ماما ..بحبك ماما ....فأجيبه بأني أحبه أيضاً وأتحسس جسده العليل الضئيل وأدعو له
بالشفاء من آلامه ، وكلما لاحظت عليه عرضاً جديد من أعراض المرض أبكي في حسرة
ولوعة !!!
ساعتها يمسك يدي قائلاً : معلهش ماما ، فأمسك دموعي رأفة
به !
أما عن علاقته بأبيه وحبه له فقد كان ملتصقاً به طوال
عمره لا يفارق ظله حتى فاضت روحه إلي بارئها .
أم ابنتي الحبيبة دعاء التي تبلغ من العمر تسعة أعوام ،
فهي تعاني منذ خمسة أعوام من نشاط كهربائي زائد في المخ ، وقد طرقنا أـبواب أطباء
كثيرين التماساً لعلاجها دون جدوى ، وقد نصحني أهلي بالإنجاب مرة أخرى لكني رفضت
ذلك وأتساءل : هل حقاً سوف يرزقني الله
بولد جميل كطفلي الحبيب الراحل محمود ، هل سيعوضني الله طفلاً آخر في ذكائه
وأدبه وحنانه وكل صفاته الجميلة ؟ !
إنني أخشي غضب الله برفض الحمل للمرة الثالثة ، لا أدري
ماذا
أفعل ؟
&& تلك
كانت حكاية الصبر الجميل علي المحن والخطوب والابتلاءات ، إنها تصوير بليغ لعلاقة الحب الغريزي بين الأم وطفلها ، ولسوف
يعوّض الله تلك الأم المكلومة خيراً
وفيراً ، ستجده هناك ينتظرها في بيت الحمد ، في جنات صدق عند مليك مقتدر .
وأرجو من أختي الفاضلة فاطمة أن تعيد النظر في قرارها
الامتناع عن الحمل مرة ثالثة ، فالحمل والإنجاب لمن كانت في ظروفها الصعبة هما أنجع دواء لأحزان الثكلي ، وخير ما يساعدها علي الانفتاح علي الحياة مرة
أخرى بالاستعداد لتلقي هبة الله وتعويضه الذي يدخره لها .
وهذا ما فعلته مع زوجتي المؤمنة الصابرة عندما توفي إلي
رحمة الله ولدنا الحبيب عمر ، ساعتها صبرنا واسترجعنا وتماسكنا وشجّعتها بقلب ثابت
يملؤه الثقة بالله علي تكرار تجربة الحمل
والانجاب للمرة الثالثة ، رغم المخاوف من أن يأتي وليدنا الجديد مصاب بنفس الوحمات
الدموية !
وكان فضل الله علينا عظيماً حيث وهبنا عطيته الرائعة ابنتنا الحبيبة آية ، وهي حقاً وصدقاً
آية في ذكائها وأخلاقها وطاعتها لوالديها
.
ولله الحمد والمنة من قبل ومن بعد .
****************************************
أحمد
عبد اللطيف النجار
أديب ومفكر عربي
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية