الأربعاء، 21 مارس 2018

   القصص الهادف
            شاطيء الإيمان
                     بقلم / أحمد عبد اللطيف النجار
                             أديب  ومفكر  عربي


من أعماق الظلام واليأس يولد دائماً شعاع أول ضوء للأمل ، ومهما بعدت بنا مرافيء الحياة فلابد (إن شاء الله ) أن ترسو يوماً علي شاطيء الإيمان .
والأمل في رحمة الله دائماً موجود واقعاً حياً مجسداً في كل ما يقابلنا من أحداث وابتلاءات ، فليس بالطب وحده فقط يُشفي المريض ،  فالطب ما هو إلا وسيلة والشافي هو الله .
عمران طبيب شاب عمل بإحدى بواخر الركاب كطبيب ، وكانت الباخرة التي يعمل عليها ترسو بين مواني إيطاليا واليونان ،
ولطبيعة عمله وسفره الدائم ، بدأ يحلم بالإقامة والعمل في إحدى الدول الأوربية .
في إحدى رحلات العودة من أوروبا تعرّف على ظهر الباخرة بفتاة مصرية كانت عائدة من تدريب صيفي في انجلترا ، لفتت مفيدة نظره بأدبها وشخصيتها المتزنة وثقتها في نفسها ، وعلم عمران أنها تدرس بكلية الاقتصاد المنزلي وتسافر كل صيف إلي انجلترا للتدريب ؛ فاتحها برغبته في الارتباط بها  فرحبت به !
في مدينة الإسكندرية ذهب لأسرتها وخلال أسبوع واحد كان قد خطبها وعقد قرانه عليها ، واتفقا علي الهجرة إلي لندن للعمل والدراسة هناك ، وبدأ عمران في تحقيق حلمه لاستكمال الدراسات العليا في تخصصه والعمل في نفس الوقت .
قابلتهم الصعوبات التقليدية في بداية غربتهم ، لكنهم تعاونا معاً في بناء أسرتهم الصغيرة ، وكان عمران يمارس أكثر من عمل وكافح كفاحاً مستميتاً لمواجهة متطلبات الحياة .
بعد فترة استقرت بهم الأحوال في لندن وأصبحت لهم شقة صغيرة جميلة ، واستقرت زوجته مفيدة في عمل مناسب لدراستها بأحد الفنادق، وبدأ الزوجين يشعرون ببعض الراحة والاستقرار فأنجبا طفلتهم الرائعة أميرة التي أظهرت تفوقاً ملحوظاً في دراستها الابتدائية ، وبعد 9 سنوات اشتاقت مفيدة إلي طفل آخر ، ورزقهم الله بطفلهم سعيد .
اكتملت الأسرة الصغيرة السعيدة واستقرت أوضاعهم المالية واستطاعا بمدخراتهم البسيطة إنشاء مشروع صغير حققا فيه نجاحاً طيباً بحمد الله .
كانت العائلة كلها في مصر يعرفون أميرة ويقدرون شخصيتها العطوفة وروحها المصرية الودودة التي لم تتأثر بالنشأة والحياة
في أوروبا بكل مغرياتها ، وكانت هي بدورها حريصة كل الحرص علي زيارة الأهل والأقارب في مصر كل عام ، وعندما بلغت أميرة عامها السادس عشر ووصلت للسنة النهائية في دراستها الثانوية التي تؤهلها للالتحاق بالجامعة ؛ لاحظ أبيها  ذات يوم أن رقبتها منتفخة بعض الشيء ، فظن ( بحكم عمله كطبيب) أن غدتها الدرقية ملتهبة بعض الشيء وتحتاج لعلاج فوري ، وعرضها علي طبيب الحي الذي كتب لها العلاج دون فائدة ، فقام بعرضها علي طبيب آخر نصحه بدوره لعرضها علي أطباء مستشفي كبير متخصص في لندن ، وتم احتجازها بالمستشفي وبدأت سلسلة الفحوصات والأشعات  والتحاليل لكا أجزاء الجسم لمحاولة تشخيص مرضها .
خلال تلك الفترة تدهورت صحة أميرة بصورة سريعة  وكانت تنتقل من سيء لأسوأ ، وأبويها يراقبنها في عجز وقهر وألم !!
فقد بدأت الابنة المسكينة تفقد سيطرتها علي عملية الإخراج ، ثم بدأت تفقد القدرة علي تحريك ذراعيها وساقيها ، ثم القدرة علي الكلام وعلي البلع وتناول الطعام والشراب ، وبدأت تفقد بعد ذلك ذاكرتها ولا تكاد تتعرف علي أبيها وأمها ، حتى وصلت حالتها للحضيض ؛ فلازمت الفراش بالعناية المركزة  مفتوحة العينين لا تعي شيئاً ولا تحس بأي شعور مما يجرى حولها !!
وأخيراً استطاع الطبيب تشخيص حالتها بأنها مريضة بمرض نادر هو ( لوباس ـ lopass)  ويعني اختلال جهاز المناعة في الجسم الذي يؤدي إلي أن يحارب الجهاز جسم الإنسان ويهاجم أعضاءه بدلاً من أن يدافع عنه !!
يا إلهي !!.... ساعتها صرخ عمران من أعماقه طالباً رحمة الله به وبابنته المسكينة وزوجته وأسرته !
وبدأ علاج أميرة يسير في هذا الاتجاه ، وبدأ الطبيب المعالج  علاجه
بتغيير البلازما الملوثة بفيروس لوباس القاتل في دمها كله ببلازما جديدة نظيفة، وقد أدي ذلك لتساقط شعر أميرة حتى أصبحت صلعاء تماماً !!
ذات يوم ذهب عمران للمستشفي وأطل من خلف الزجاج علي ابنته المسكينة الراقدة بلا وعي أو حراك في فراشها ،  فرأى زوجته تسرّح لها الشعيرات القليلة الباقية في فروة رأسها ، وتغني لها أغانيها القديمة التي كانت تهدهدها بها وهي طفلة رضيعة ، ساعتها انهمرت الدموع من عين عمران بغزارة وبكى بحرقة !!
لقد زاد من كربه إدراكه أن زوجته تعلم جيداً  أن ابنتهم المريضة لا تسمع ولا تعي ما حولها ، ومع ذلك فهي تمضي الساعات الطويلة تحدثها وتحكي لها الحكايات وأحداث يومها وما قاله أبوها وما قاله الأطباء والأصدقاء ، وتروى لها عن الذين سألوا عنها وتبلّغها تمنياتهم الطيبة بالشفاء العاجل بإذن الله.
حين يقول لها زوجها أنها لا تسمع تجيبه بإصرار بأنها تسمع وتعي وتحس بما حولها ، وأنها ستشفى بإذن الله وستعود للوقوف علي قدميها من جديد !
تركهم الرجل وعاد إلي بيته حزيناً مهموماً ، وفوجئ بولده سعيد قد انتابته هو الآخر حالة نفسية غريبة ، فراح يأكل بلا وعي ويزداد وزنه بشكل مخيف ، وزادت أسألته الغريبة لأبيه ، كان يعبّر خلالها عن خوفه من المستقبل !
هكذا وجد عمران أسرته الصغيرة التي كانت ( قرة عينه ) تنهار أمامه ؛ فلم تعد له رغبة في العمل وهو الذي لم يهدأ يوماً واحداً في الكفاح طوال ربع قرن !
يا إلهي .... ماذا يحدث لي ؟  ولماذا ؟!!
أسئلة كثيرة تواردت علي عقل الرجل ، وقد لاحظ أن الله فتح عليه
في أعماله ، ورزقه بعقود عمل لا يدري كيف تأتي إليه ؟!!
كان تفسيرها في رأيه هي أن الله سبحانه وتعالي يريد أن يمده بالمال لعلاج ابنته التي تتلقي علاجها في مستشفى خاص تكاليفه باهظا للغاية !
وكثيراً ما كان عمران يطلب من أمه الدعاء لحفيدتها ، خاصة أن الأطباء الإنجليز لا يعترفون بالمشاعر والعواطف ، وإنما الحقائق عندهم مجردة ، فكانوا يخبرونه أنه لا أمل في نجاة ابنته من المصير المحتوم ، واستقر اليأس في أعماق الأب المكلوم وبدأ يفكر في المكان الذي سيدفنون فيه فلذة كبده أميرة حين يحم  القضاء ،، هل يعيدونها لمصر أم يحتفظون بها إلي جوارهم في بلاد الغربة ؟!
في وسط تلك الأفكار السوداء ذهب عمران للمسجد الكبير وسط لندن ، الذي اعتاد الصلاة فيه كل جمعة ، وسمع الخطيب يروى الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالي  (( وإن جاءني عبدي يمشي أتيته هرولة )) ... ساعتها صرخ الأب المكلوم في المسجد : يا رب جئتك هرولة فأقبلني في عبادك التائبين وأعفو عن ابنتي أو فأرحمها وألطف بها وبنا وخفف عنها يا أرحم الراحمين ، واستمر عمران في دعاؤه غير مهتم بنظرات المصلين حوله ، وواظب علي الصلاة من يومها في المسجد ، وبدأ يستشعر سكينة عجيبة وهو ساجد لربه يصلي لم يكن يشعر بمثلها من قبل ، وازدادت سكينته حين سأل الطبيب الكبير: ألا أمل في شفاء ابنتي ؟. ..  فأجابه الطبيب بصراحة سافرة أنه كان يتوقع لها الموت في يوم محدد منذ شهر بسبب اختلال جهاز المناعة !!
لكن شاءت إرادة الله ألا تموت في الموعد الذي حدده الطبيب الانجليزى ، فتجدد الأمل لدى الأب الحزين وشعر في هذه اللحظة بأن الله سبحانه وتعالي لن يتخلى عن ابنته ولن يسلم أبيها لليأس
من رحمته .
ذات يوم فوجئ عمران عند زيارته للمستشفي بزوجته مفيدة في حالة معنوية عالية جدا، وما أن رأته حتى صرخت :
ــ لقد تكلمت أميرة ، لقد تكلمت ونطقت بعض الكلمات عبرّت بها عن رغبتها في الذهاب للحمام !!
ــ الله أكبر ولله الحمد ، إذن هناك أمل كبير بأن تعود لحالتها الطبيعية ذات يوم ، بعد شهور من الغيبوبة التامة !!
ثم بدأت الأخبار السارة تتوالى ، لقد تحركت أميرة !!... لقد تكلمت أميرة !!.... لقد تأوهت أميرة !!   
كان أبيها كلما سمع ذلك أدرك مدى خطأه حين عاش حياته كلها مؤمناً بالحقائق العلمية المجردة وحدها وحساباتها الدقيقة !
لقد عرف الآن كم كان مخدوعاً في تلك الحقائق المجردة، وأيقن أنه ليس بالطب وحده تتقرر مصائر البشر ، وإنما بإرادة الله العليا التي تدير هذا الكون وتحكمه بمشيئته سبحانه وتعالي .
مع الأيام بدأت أميرة تستعيد وعيها وتتعرف على والديها وأخيها الصغير سعيد ، وأخبرهم الطبيب أنه جاء الآن دور العلاج الطبيعي لكسي تستعيد أميرة قدرتها علي الحركة والمشي ، وأن ما حدث هو بالتأكيد معجزة إلهية ، خاصة فيما يتعلق بذاكرتها التي بدأت تستعيدها تدريجياً  رغم إصابتها المتكررة في المخ !
وعلي الفور قام بنقلها لمستشفي العلاج الطبيعي  وهناك توالت المعجزات وبدأن ابنتهم الحبيبة تستعيد قدرتها علي تحريك ذراعيها ثم ساقيها ، وبأت تستعيد ذاكرتها بقوة وبنفس مستوى ذكاءها القديم ، وبعد فترة غادرت أميرة المستشفي وسارت علي قدميها وقد استعاد جسمها كل وظائفه !
ساعتها شعر أبوها بأن الله سبحانه وتعالي قد أخرجهم من محنتهم
ومن ظلمات اليأس  والخوف إلي نور الأمل في رحمة الله .
ذهبت أميرة إلي مدرستها مرة أخرى وتم اعتمادها في السنة النهائية من المرحلة الثانوية كما كانت قبل المرض ، ومرت الأيام سريعاً ونجحت أميرة بمجموع كبير والتحقت بكلية الطب !
إنها حقاً معجزة إلهية عظيمة عبرت بتلك الأسرة اليائسة من ظلمات الإحباط  إلي شاطئ النور والإيمان والسكينة وطمأنينة النفس والروح ، وكما قال أحد العارفين بالله من الصوفية : إن القلب الذي يسكن فيه الله هو القلب المطمئن مهما تقلبت به الأحوال ، فإذا عدم القلب سكينة ربه ؛ تلاعبت به أنواء الحياة كما يتلاعب الموج الهادر بسفينة فقدت شراعها !
يا الله .. سبحانك يا رب .. لقد تعلمنا من هذه المأساة الكثير والكثير ، وأنه ليس بالطب وحده يحيا الإنسان  ويتعافى ، وأن إرادة الله ومشيئته فوق كل الحسابات والقدرات ، وأن الطب لم يُحط من أسرار الجسم البشري إلا بالقليل القليل جداً  !!
و..... ( ما أوتيتم من العلم إلا قليلا)   .... صدق الله العظيم .



أحمد عبد اللطيف النجار
                                                      أديب  عربي






0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية