سرديات قصيرة //////// كمال النفوس ..../////////////////////////////////////////////////////////////
سرديات قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــ
كمال النفوس
بقلم
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب
عربي
الكمال لله وحده ، تلك حقيقة إيمانية لا مجال
للشك فيها ، والنفس البشرية ، نفس متناقضة تتجاذبها عوامل كثيرة من الشك والحزن
والغضب والمرح والسعادة والألم .
وهناك نفوس راضية مطمئنة تصمد أمام حوادث
الدهر ، لا تجزع ولا تضطرب ، وهناك نفوس
حائرة ، ضعيفة خائفة تستسلم لأحزان
الحياة ويكاد يقتلها الخوف من المستقبل .
وما بين النفوس المطمئنة والنفوس الحائرة نجد
نفوس ضائعة ، تائهة بين السماء والأرض
تبحث عن بصيص من النور ينير لها طريقها ويدلها علي سبيلها في الحياة .
إخلاص ، سيدة فاضلة جاءتني ذات يوم يشع من
وجهها نور الإيمان قائلة :
أبلغ من العمر 27 سنة ، تزوجت منذ سبعة أعوام
وأنا طالبة في بكالوريوس العلوم من يونس المهندس الشاب ذو الخلق الكريم .
بدأنا حياتنا الزوجية سعيدين ، متحابين ولم
تمض فترة طويلة حتي أصبحت حامل وفرحت بذلك كثيراً ، وبعد فترة جاءت شقيقتي الصغري
لتزورني في مسكني ، وبعد انتهاء الزيارة قررت العودة معها ألي بيت أسرتي لزيارتها
.
في
الطريق تعرضت السيارة التي نركبها لحادث مؤلم ولم نشعر بنفسينا إلا ونحن
طريحي الفراش في المستشفي !
فتحت عيني فكان أول من رأيته هو وجه زوجي
الحبيب والدموع تنهار من عينيه تألما لما أصابني ، وعرفت أنني قد أصبت بكسور
مضاعفة في الفخذين والساقين والحوض ، وأنني فقدت جنيني الذي كنت استعد لاستقباله بعد شهور قليلة !
تلفت حولي فوجدت أختي ترقد في السرير المجاور
لي وقد أصيبت هي الأخرى بكسر في ساقيها وقطع في أوتار يدها .
دخلت غرفة العمليات لإجراء الجراحات المتعددة
التي قررها لي الأطباء ، وتمت العمليات بنجاح والحمد لله لي
ولأختي ، لكننا غادرنا المستشفي معاً
محمولتين علي النقالة الي بيت أسرتي لقضاء فترة النقاهة .
في بيت أسرتي رقدت طريحة الفراش عاجزة عن
تحريك نصفي الأسفل ، والجميع يقومون بخدمتي ومساعدتي في تناول طعامي وشرابي وفي رفعي لقضاء حاجتني في السرير ،
وزوجي يونس يصر علي أن يتحمل وحده العبء الأكبر في كل ذلك وبالذات في مساعدتي علي
شئوني الخاصة والابتسامة لا تفارق وجهه ، ويجلس بجوار فراشي ساعات طويلة يخفف عني
ببشاشته ما أصابني .
رغم كل هذا الحب وهذا الإخلاص ، فقد كان
يساورني دائما الخوف من أن يتخلى زوجي عني بعد أن أصبحت عاجزة !
ذات يوم واتتني الجرأة علي مواجهته
بمخاوفي ، فأجابني بالدمع الغزير بأنه لن يتخلى
عني أبداً لأنني كل حياته وأنني سوف أشفي بإذن الله ونواصل مسيرتنا معاً في الحياة
كما أرادها لنا الله حين اختار كلا منا للآخر .
ساعتها كانت كلماته خير دواء لي ، وبعد ثلاثة شهور من مغادرتنا المستشفي وقفت
أختي علي قدميها بفضل الله وعادت لمواصلة حياتها بصورة طبيعية ، أما أنا فقد طال
علاجي ستة أشهر أخري بدأت بعدها في استعمال
المقعد المتحرك ، ثم طلب مني زوجي أن نعود الي شقتنا كي نستأنف حياتنا في
عشنا الصغير ، وعدت بالفعل إلي شقتي الحبيبة
بعد طول غياب ، رجعت إليها علي مقعد متحرك بدلاً من أدخلها وفوق ذراعي
وليدي الشهيد !
رغم كل شيء كان زوجي يونس سعيدا بعودتي لبيتي
وتصّرف معي منذ اليوم الأول بطريقة طبيعية
، ووجدت فيه الزوج والأب والصديق .
بدأنا مواجهة ظروفنا الجديدة ، فكان يونس يساعدني في ترتيب الشقة وطهي
الطعام ويحمله إلي المائدة ويقوم بكي الملابس، وأقوم انا بغسل الملابس ويقوم هو
بنشرها وجمعها .
كل ذلك يقوم به وابتسامته الجميلة لا تفارق
وجهه وبلا أي لمحة تذمر أو ضيق أو كلمة جارحة لمشاعري .
ذات يوم قلت له : أنني اشعر بالذنب تجاهك
لحرمانك من الأولاد وأنه من الأفضل لك أن تبحث عن زوجة ثانية .
ساعتها صرخ يونس في وجهي مستنكرا ما قلته ،
ونظر لي معاتبا يسألني السؤال الذي كنت أقف
أمامه حائرة عاجزة : ماذا لو كنت أنا ضحية هذا الحادث ؟!
هل كنتِ ستتخلين عني ؟
وقبل أن أجيبه بشيء قال لي باسماً : أنتِ
قدري في الحياة ، والتسليم بالقضاء والقدر من أركان الإيمان ،
فهل تشككين في إيماني ؟!
اسمع كل ذلك من زوجي الحبيب فيرق قلبي وازداد حبا وإكبارا له .
تمر الأيام علينا ويبدأ العام الدراسي الجديد
ويطلب مني يونس أن أعود إلي كليتي لاستئناف دراستي ، واستجبت لرغبته ، فاتفق مع
سيارة ربع نقل لكي تحملني وتحمل المقعد
المتحرك معي الي الكلية ، وأصبح ينزل معي صباح كل يوم كي يحملني من المقعد
المتحرك الي المقعد الأمامي للسيارة بجوار
السائق ، ثم يضع الكرسي المتحرك فوثق ظهر العربة ويجلس بجواري ونذهب للكلية ، وهناك ينزل المقعد المتحرك من
السيارة ويحملني لأجلس عليه ثم يسلمني
لزميلاتي بالكلية الذين استقبلوني بحفاوة واهتمام بالغ ، وينصرف زوجي الي
عمله مطمئنا ، وبعد انتهاء محاضراتي يتسلمني
منهن شاكرا ونعود للبيت ، فيساعدني في طهو الطعام ونقل المحاضرات ، ثم يهيئ لي الجو الملائم للاستذكار ، وظل مواظبا علي
ذلك طوال العام الدراسي حتي أديت امتحان
آخر العام ونجحت وحصلت علي
البكالوريوس بتقدير جيد .
كانت فرحتنا كبيرة بنجاحي الذي كان انعكاسا ايجابيا لحبنا الصادق
.
بعد ذلك تهيأت الظروف للسفر لإجراء جراحة دقيقة في ساقي علي أمل لأن
استعيد قدرتي علي المشي والحركة .
سافرت بالفعل أنا وزوجي وأجريت الجراحة
الدقيقة ونجحت بحمد الله ، وعدت من سفري
وأنا أتأبط ذراع زوجي الحبيب بيد واسند باليد الأخرى علي عصا تعينني علي المسير .
عدنا الي عشنا الجميل ونحن أكثر ارتباطا وتمسكا بحياتنا معا ، وأنعم المولي عز وجل عليّ بالحمل والإنجاب وعوّضني عن جنيني الأول الذي فقدته؛ بطفل جميل
أسميته حامد وقد أصبح عمره الآن ثلاث سنوات ، وما زالت مشيتي غير طبيعية إلي حد ما
، وما زلت أحس بالتعب والإرهاق من أقل مشوار أقوم به ، وما زال زوجي الحبيب يقوم بمساعدتي في أعمال البيت
وتربية طفلنا الصغير ، وكانت معاملة أسرته لي ممتازة ، فلم تجرح مشاعري يوما ولم تقّصر تجاهي في شيء ؛ بل تحبني وتدعو
لي بالشفاء الكامل إن شاء الله ، وهذا من فضل رحمة ربي ورحمته بي
.
واعترف لك صادقة أنه لولا وقوف زوجي يونس إلي
جواري في محنتي هذه ووجوده في حياتي لحدث شرخ كبير في شخصيتي ، ولتدهورت صحتي النفسية كثيرا ، وقد أدركت تلك الحقيقة
مبكرا بسبب رقة زوجي معي
وكرم أخلاقه ،جزاه الله خير الجزاء .
//////
كانت تلك قصة الإخلاص مع أختنا إخلاص
التي أخلصت نيتها لله تعالي وصبرت ؛ فانهالت عليها جوائز السماء ورحمات رب
السماء من حيث لا تدري ولا تحتسب .
تلك هي
النفوس الكاملة العاقلة التي ترضي بواقعها وتتكيف معه دون عجز واستسلام ن
وإنما بالمثابرة علي الصبر والعزم الأكيد علي تخطي كل الصعاب ، ومن حسن حظها أن
رزقها الله زوجها الكريم يونس الذي وقف بجانبها في محنتها حتي وصلت إلي بر الأمان
، وذلك يبرهن لنا أن جمال المرأة الحقيقي إنما هو جمال روحها ونفسها الروحانية الشفافة التي تتغلب علي أي صعاب تقابلها ، والشاعر والفيلسوف
الهندي طاغور يقول : إن المرأة الحقيقية تستطيع أن تخلق الجمال في قلب الرجل ولو لم تكن جميلة !
والرجل بدوره يفعل ذلك مع زوجته .
أختنا إخلاص توافقت روحها وتواءمت مع روح
زوجها المخلص يونس ، وذلك هو حال المحب الحقيقي ، كل ما يعترضه من عواصف الحياة لا
يقضي عليه وإنما يزيده قوة وعمقا وتوهجا كما تصقل النار المعدن النفيس وتزيده
لمعاناً .
لقد تصرف معها زوجها كما ينبغي للإنسان نبيل
المشاعر ، سليم الوجدان أن يفعل مع شريكة حياته في مثل هذه الظروف ، وبالمقابل
رأينا كيف كان تقدير إخلاص لزوجها علي تصرفاته معها صادرا من قلب حكيم ونفس
عاقلة تعي منطق الأمور وتقدّر الناس حق قدرها .
لقد منحته جائزة العرفان من قلب محب وتلك شهادة لها بأنها من أصحاب النفوس
السوية المبرأة من مركبات النقص والجحود .
هي تعرف جيدا أن كتمان الشكر جحود وكفر لأن
من أثني فقد شكر ومن كتم فقد كفر كما ورد في حديث حبيبي ونور عيني وقلبي رسول الله صلي الله عليه وسلم .
هنيئا لإخلاص زوجها المخلص الأمين ، وهنيئا لآخونا
يونس إخلاص زوجته له وحبها ووفائها في زمن مات فيه الإخلاص والوفاء !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد عبد
اللطيف النجار
أديب عربي
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية