سرديات قصيرة ///// النظرة القديمة !! ///////////////////
سرديات قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــــ
النظرة القديمة
بقلم
أحمد
عبد اللطيف النجار
أديب عربي
رغم إننا
أصبحنا نعيش في القرن الحادي والعشرين ، ورغم تغيّر كثير من القيم والمفاهيم في
الحياة بحيث أصبحت نظرة الناس أكثر اتساعا وشمولاً تماشياً مع العصر ، إلا
أنه ما زالت توجد بيننا عقول متحجرة تنظر
للأـشياء والمفاهيم نفس نظرتها القديمة الضيقة !
مثلاً ما زال هناك بعض الناس ينظرون إلي الوظيفة الميري
نظرة إجلال وتقديس وهم يعلمون جيداً أنها لا تستر بيتاً ولا تسد أفواه الجياع !!
وبنفس العقلية المتحجرة ونفس التفكير العقيم ونفس
النظرة الخائبة ينظرون إلي أي عمل حرفي بوصفه ( عمل غير لائق ) أو من الأعمال
الدونية !
رغم علمهم التام أن أي حرفي ماهر وأمين في حرفته
مع إتقانه لصناعته يكسب بعرقه وكد يديه ما يكسبه الموظف عشرة أضعاف إن لم يكن أكثر
!
وبنظرة القرن الحادي والعشرين المتفتحة ، وبمنطق
العقول الواعية أعرض عليكم قصة صاحبي أبو السعود ، الذي جاءني ذات ليلة
حزيناً ، مهموماً يقول :
عمري ثمانية عشرين عاماً ، حصلت علي شهادة متوسطة
منذ ثماني سنوات ، وعملت بوظيفة حكومية
صغيرة ، ومنذ أربعة أعوام سافر أخي الأكبر ويعمل حلاق للرجال ، سافر للعمل
في إحدى الدول العربية وترك الصالون الذي يمتلكه
وراءه ، فاضطررت لتعلم مهنة الحلاقة لكي افتح الصالون وأقوم بأعباء
ومسئوليات أسرتي إلي أن تستقر أحوال شقيقي في الغربة ويرسل لأمنا مرتباً شهرياً ، وبالفعل التحقت
بمدرسة لتعليم قص الشعر ، وتعلمته خلال شهرين فقط .
لم أكن أتصور أن المهمة بسيطة بهذا الشكل ، فقد
أتقنت فنون القص الحديثة وتخلصت من رعبي
الذي أحسست به حين أمسكت بأدوات قص الشعر لأول مرة في حياتي !
فتحت المحل ووقفت فيه ، فوجدت رؤوس الزبائن جاهزة
أمامي وهات يا قص وهات يا قبض فلوس !
بعد ستة أشهر فقط كان كل عملاء المحل قد
عادوا وزادوا زبائن آخرين ، ففكرت في طلب
أجازة بدون مرتب من عملي الحكومي لمدة عامين ونفذت الفكرة بالفعل .
بعد فترة أرسل شقيقي يخبرني باستقرار أوضاعه في عمله بالخارج وأنه سوف يمكث
هناك إلي ما شاء الله ، فلم أجد ضرورة لوظيفتي الحكومية واستقلت منها غير نادم عليها
لأنني ببساطة وجدت نفسي أكسب مرتبي في شهر خلال يومان فقط من العمل بمحل الحلاقة
!!
والحمد لله تحسنت أحوال المادية كثيراً وأصبحت
استخدم اثنان من المساعدين وتحسّن مظهري
كثيراً ، فأصبحت ارتدي الفاخر من الثياب ، وبعد عامين من العمل المتواصل بصالون
الحلاقة اشتريت
سيارة حديثة فاخرة و أصبحت ارتاد الأماكن الراقية
.
ذات يوم رائع تعرفت علي إحسان ، فتاة خريجة
جامعية حديثة لم تعمل وتسكن بالقرب من الصالون ، حدث بيننا إعجاب متبادل واتفقنا علي الزواج ، وتمهيداً لذلك تعرفت علي أبيها الموظف بالمعاش ، طلبت
منه يد ابنته وعرضت عليه أن أتكفل بكل
نفقات الزواج بحيث لا اكلفه شيئاً ، ثم قابلت شقيقيها ، أحدهم مهندس والآخر محام
بشركة قطاع عام ، رحب بي الأب ، أما الشقيقان فقد قابلاني بفتور واستكبار ، مع ان كلا منهما كان قبل ذلك
يخطب ودي ويحترمني ، حيث يأني للصالون
لأقص شعره !
بل كان كل منهما يناديني يا دكتور أو يا باشمهندس
، لكن ذلك قبل أن يعرفا أنني أريد الزواج من أختهم إحسان ، أما بعد أن عرفا
الموضوع فقد أصبحا يتكبران عليّ وعندما حان موعد قص شعرهم لم يحضرا للصالون ،
فلماذا تلك العقد ؟!
ما هو العيب في عمل الحلاق أو كوافير الرجال ؟!
أنا وأعوذ بالله من نفسي صاحب عمل محترم ودخلي
كبير وعندي مدخرات ومن أسرة معروفة بالأخلاق وحُسن السمعة ، كما أنني كنت موظف
مثلهم لكني آثرت العمل الحرفي الحُر لأنه
أفضل من الوظيفة التي كنت لا أعمل فيها شيئاً ولا تكاد تكفي لشراء العيش الحاف !
وإن بقيت فيها لما استطعت أن أوفر تكاليف زواجي
وأصرف علي أمي وأخوتي .
أنا متمسك بالفتاة التي اختارها قلبي وأبيها
موافق علي زواجنا ، فهل أترك حبيبتي إحسان إكراماً لشقيقيها ؟!! ....ما ذا أفعل
...؟!
تلك في الواقع ملهاة يعيشها شاب مجتهد ،
مكافح ، متفتح العقل والبصيرة ، أدعوه
للتمسك بعروسه لأبعد مدى !
كل ما فعله الرجل صحيح 100% ــ لقد فكر
بأسلوب عملي وواقعي
سليم ونظر للأمور نظرة صائبة متعمقة ، حتى أنني أفكر بجدية أن أحذو حذوه
وأتعلم مهنة قص الشعر في إحدى مدارس تعليم قص الشعر ، ثم أفتتح صالون حلاقة
للرجال ، وأستقيل من وظيفتي الحكومية البائسة
ذات الراتب التافه الذي لا يغني ولا يسمن من جوع
أما شباب اليوم العائشون في الأوهام والمظاهر
الخادعة ؛ فتفكيرهم عقيم ونظرتهم للأمور ساذجة سطحية !!
نصيحتي المخلصة لصاحبي وحبيبي أبو السعود هي
التمسك بعروسه إحسان ما دامت هي متمسكة به ومقتنعة بشخصيته وقدرته وأخلاقه ، وما
دام أبيها يرحب به ، فهو ولي أمرها الطبيعي ، أما شقيقاها فهم لم يرفضا الرجل من
حيث المبدأ ، وإنما لأن تفكيرهم ما زال محدوداً ومثقلاً بأغلال العُرف
والتقاليد الجوفاء ، ولأنهم لم يتخلصا بعد
من رواسب النظرة القديمة للعمل الحرفي
والمهني الخاص التي تغيّرت تماماً الآن .
وهناك احتمال آخر أن تكون الحساسية المفرطة من
ناحية صاحبي ابو السعود هي سبب معاناته ، بمعني أنه يتوهم أن أشقاء عروسه يتعالون
عليه !
إذن عليه أن يتعامل مع الموضوع كله بموضوعية وبصورة طبيعية دون حساسيات ، ساعتها فقط سوف تذوب كل
الحساسيات وتتلاشى .
لكن ما استوقفني حقاً في حديث صاحبي أبو السعود
قوله عن وظيفته الحكومية التي استقال منها : ( كنت لا أعمل فيها شيئاً ) ... ذلك
قول حق وصدق ، فذلك بالفعل هو حال غالبية موظفي الحكومة في ( كل ) الدول
العربية ـــ بطالة مقنعة !!! ــ إنهم عاطلين بالوراثة ، إنهم لا يعملون خلال
يومهم شيئاً ذات قيمة سوى تناول وجبات الإفطار ثم الخوض في أحاديث الإفك والنميمة
عن علاّن وفلان ، وطبعاً حل
الكلمات المتقاطعة ، والإبحار حول العالم كله
بواسطة الفيسبوك !!
ذلك هو حال الوظيفة الميري حالياً في عالمنا
العربي كله بلا استثناء!
لهذا تقدم الغرب
وتأخرنا نحن ، أصبحنا في ذيل الأمم
!!
انظروا إلي الصين ... انظروا إلي الهند ...انظروا
إلي ماليزيا ...انظروا إلي سنغافورة ... لقد استلهمت تلك الشعوب الواعية روح
الإسلام وتعاليمه العظيمة فتقدمت في سنوات معدودة
، وتأخرنا نحن المسلمين مئات السنين ...بل قل آلاف السنين !!!!!!
متي يستيقظ الشباب العربي من الغيبوبة التي يعيش
فيها ؟!
متي نعرف جيداً قيمة العمل المهني الحًر ؟!
متي نهتم بمدارس ومعاهد وكليات التعليم الفني
المهني ، فيتخرج منها الطالب ويجد سوق العمل مفتوحاً أمامه بإنشاء المصانع الكبري؟
كل كلياتنا النظرية لا لزوم لها ،، يخرج منها كل
عام ملايين العاطلين ، ولا أريد أن أقول الجهلاء ،، التعليم فيها ردئ وهابط جدا
جدا جدا ، بل قل لا يتعلم فيها الطالب شيئاً ذات قيمة !!!
قيمة الإنسان بعمله المهني ، لهذا تقدمت الصين
ذات المليار نسمة ، أما نحن العرب فما زلنا مشغولين بمآسينا وضياع أراضينا وقتل
بعضنا البعض !!!!
متي نستيقظ من سباتنا العميق وننهض كما نهض العالم بأسره ؟!!
متي ...متي ؟!
و ........ إذا فاتك الميري لا تتمرغ في ترابه !!
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب عربي
0 تعليقات:
إرسال تعليق
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية